أفهم قلق الجميع في بلادنا من الأثمان الباهظة التي دفعها الفلسطينيون جراء زلزال السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لكن لديّ عدة تحفّظات على الادعاء بأن ما جرى كان مغامرة غير محسوبة باتت مرشّحة لاستدعاء نكبة جديدة تكرِّر فاجعة عام 1948.
لا أناقش الحزن بل أجده مبررًا؛ لأنني لا أتصور مخلوقًا لم يمُت ضميره لم يغضب ولم يعتصر قلبَه الألم وهو يشاهد الموت والخراب الذي حلّ بغزة وأهلها منذ وقعت الواقعة. إلا أنني أتحفّظ كثيرًا على ما يروّج له البعض بخصوص تكييف ما جرى.
وأزعم أن ثمة أخطاء جسيمة في مقارنة مآلات الحاصل الآن بما أفضت إليه حرب 1948. ولا أجد تشابهًا في الحالتَين إلا في ثلاثة مواضع؛ أولها بشاعة الجرائم الإسرائيلية التي عمدت إلى التنكيل بالفلسطينيين وتهجيرهم بقوة السلاح من مدنهم وقراهم وأرضهم بعد نهبها.
الثاني تشابه في دور القوى الدولية؛ لأن بريطانيا كانت وراء إقامة دولة إسرائيل في 1948 (كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني)، في حين أن الولايات المتحدة ظلت شريكة إلى جانب إسرائيل في عدوانها الحالي. وجه الشبه الثالث يتمثل في أن المواجهتين تمّتا على أرض فلسطين وليس خارجها.
في المقارنة بين نكبة 1948 وحرب غزة، ينبغي أن ننتبه إلى أنّ الأخيرة بصدد الدخول في شهرها السادس، ومن ثم فإنّ الذين يحذرون من «نكبة» جديدة يرجّحون احتمالًا له شواهده، في حين أن الحرب لا تزال مستمرة ولم تحسم بعد.
ولا يفوتنا أن نسجل ملاحظة شكلية خلاصتها أن حرب 1948 كانت بين جيوش ست دول عربية: (مصر، الأردن، العراق، سوريا، لبنان، السعودية)، في مواجهة مليشيات صهيونية: (البلماخ، الإرجون، الهاجاناه، شتيرن).
أما الحرب الراهنة فهي بين المقاومة الفلسطينية، وفي مقدّمتها حماس والجهاد الإسلامي، وإلى جانبها عناصر من القوى الوطنية الأخرى. وهذه المجموعات تخوض الحرب ضد جيش دولة إسرائيل المدعوم من الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، إضافة إلى بريطانيا وألمانيا، والتي تجاوز كثافة قصفها لغزة حربَي أوكرانيا وسوريا، بل والحرب العالمية الثانية.
الملاحظة الأخرى، هي أن المقاومة الفلسطينية التي يتحدّث البعض عن مغامرتها غير المحسوبة، خرجت من رحم مجتمع ظلّ تحت الحصار طوال سبعة عشر عامًا. هؤلاء المحاصرون قاموا بحفر الأنفاق تحت الأرض بطول يراوح بين 500 و700 كيلومتر، وتدرّبوا في البر والبحر، واستجلبوا سلاحهم وصنعوه، وأقاموا شبكات الاتصال والاستخبارات، مستعينين بخبرات الداخل والخارج في أدقّ التفاصيل وأعقدها.
ذلك كله تم خلال سنوات من الإعداد الهادئ رغم أن كل شيء في القطاع تحت الرقابة ليل نهار، ولإسرائيل في ذلك إمكاناتها بالغة التقدم التي تمولها بها الولايات المتحدة، إضافة إلى طابور جواسيسها وعملائها.
وبعناصرهم تلك فاجؤُوا العدوّ من البَرّ والبحر والجو حتى أفقدوه توازنه ورشده يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وهم لا يزالون يقاتلون ويهاجمون ويهددون معاقله منذ قرابة ستة أشهر، الأمر الذي يعني أن الادعاء بإقدامهم على مغامرة غير محسوبة يعد ظلمًا لهم وإجحافًا بحقهم. وإذ اقتضانا الإنصاف أن نقدر جهدهم، فإن الإنصاف يفرض علينا أيضًا أن ننوّه ببسالة وصمود شعب غزة الذي احتضنهم وساندهم وتابعنا على الشاشات تثمينه جهودَهم.
إذا جاز لنا أن نتصارح أكثر في إنصاف الوطنية الفلسطينية، فينبغي أن نعترف بأن أولئك المقاتلين الشجعان رغم الحصار، وتواضع ظروفهم وإمكاناتهم، أبلوا بلاء حسنًا طوال الأشهر الستة، على نحو فاقَ ما حقّقته ستة جيوش عربية في 1948، في حين أن غيرهم تعرّض للانهيار في ستّ ساعات.
ما زلت عند رأيي الذي حذّرت فيه من إطلاق الأحكام أثناء احتدام المعركة؛ لأن تحقيق الإنجاز أثناء القتال لا يكفي في التقييم السليم، إذ يظل واردًا أن تكسب جولة في المعركة، لكنك تخسر الحرب في نهاية المطاف.
لذلك يتعيّن انتهاء القتال والتعرف إلى الآثار العسكرية والسياسية التي تترتّب على حصيلته، إذ هي التي يمكن أن تحدد الكاسب والخاسر. مع ذلك فإن الذي حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كانت له أصداؤه الجانبية المهمة في المجالين: السياسي والعام، التي يمكن احتسابها ضمن الأهداف التي حققتها المفاجأة الفلسطينية.
وهي التي لا أملُّ من التنبيه إليها كاستعادة القضية الفلسطينية من غياهب النسيان الذى كاد يطمس معالمها بمضي الوقت، وسقوط أسطورة القوة التي لا تقهر، وانكشاف الجرائم الإسرائيلية أمام الرأي العام العالمي، وافتضاحها أمام محكمة العدل الدولية لأوّل مرّة، التي وافقت على دعوى ضلوعها في جريمة كل الجرائم وهي جريمة الإبادة التي قدّمتها جنوب أفريقيا، وتضامنت معها دول أخرى (ليس من بينها دول عربية للأسف).
في الوقت ذاته فعملية "طوفان الأقصى" أظهرت أيضًا التصدّعات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي بين العسكريين والسياسيين من ناحية، والعلمانيين والمتطرفين الذين يصفونهم بالأصوليين من ناحية أخرى، أمام تداعيات الصدمة الوجودية لإسرائيل والتي أثارتها المقاومة الفلسطينية.
خلاصة ما سبق أن لدينا زاويتَين للنظر فيما جرى. واحدة ترى الموت والخراب وتلوّح بالنكبة، والثانية ترى الصمود والإنجاز وتلوّح بالحلم والأمل. الأولى تغذّي شعورنا بالبؤس والمظلومية والقهر، والثانية توقظ فينا الاعتزاز بالكرامة والحق في الانتماء إلى جنس البشر الذين ينعمون بالحرية والاستقلال.
صحيح أنه ينبغي ألّا نتجاهل ونهوّن من شأن الموت والخراب، رغم أن فداحة الثمن تفهم كلما عزَّ الهدف. في الوقت ذاته، فإن الإنصاف يفرض عليها أن نرصد بعناية الأهداف التي تحقّقت، مراهنة وأملًا في أنه لا يصحّ في النهاية إلا الصحيح.
لا نريد أن نستسلم للآلام، أو نتعلق بالأوهام والأحلام. وتسعفنا في ذلك القراءة الرصينة للواقع. وهذه ترشّح لنا عدة خلاصات، في مقدمتها أمران: الأول أن الفلسطينيين يخوضون المعركة وحدهم بمعزل عن الأنظمة العربية، الأمر الثاني تمثل في تحييد النظام العربي، ذلك أن الدول العربية لم تستخدم شيئًا من قدراتها سواء لمحاولة وقف الحرب أو الضغط بأي وسيلة لكبح جماح العدوان الإسرائيلي، وهو ما بات يعد نقطة ضعف في الموقف الفلسطيني. سياسيًا أو اقتصاديًا أو دبلوماسيًا.
أما الخلاصة فهي أن المقاومة الفلسطينية لا تزال ثابتة القدم، تملك بعض أوراق القوة التي تمكّنها من تحدي الإرادة الإسرائيلية المدعومة أميركيًا، الأمر الذي يعني في مقبل الأيام استبعاد الهزيمة الساحقة للفلسطينيين أو الانتصار الكاسح لإسرائيل.
فالقتل والتدمير والتهجير لن يلغي الحُلم الفلسطيني الذي ازداد رسوخًا وقوة. والعربدة الإسرائيلية – وتوسع المستوطنين – لها حدود، وما عاد ميسورًا تسويقها بعدما تفتّحت أعين كثيرين في العالم على حقيقتها.
لا مفرّ من الاعتراف بأن الأمر اختلف كثيرًا منذ 1948. وطوال السنوات التي خلت ظلّت الوطنية الفلسطينية تحاول القيام بما عليها تحت مختلف الظروف حتى كان "طوفان الأقصى" أحدث تجلّياتها. وإذا كانت نكبة 1948 قد حدثت في ظل الحضور العربي الرمزي، فإن استعادة الحديث عنها في الوقت الراهن تدعونا إلى التفكير بشكل جادّ في مدى مسؤولية الغياب أو الخذلان العربي عن ذلك الذي لا نتمنّاه، ونستعيذ بالله من شرّه.