شبكة قدس الإخبارية

لقاء موسكو واستقالة الحكومة وترتيبات البيت الفلسطيني

262482
أحمد الطناني

فتح النقاش الدائم حول “اليوم التالي” للحرب على قطاع غزة، تساؤلات كثيرة حول شكل الحكم القادم في القطاع، بل في الساحة الفلسطينية كلها، وسط الحديث الصهيوني المتكرر عن إعادة صياغة نظام الحكم في قطاع غزة بما يتناسب مع الأهداف التي رفعها رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، والبحث عن صيغة حكم مدني يخضع لإدارة وإرادة الاحتلال وينسجم مع مخططاته في تصفية المقاومة.

شكّل حديث الإدارة الأمريكية، ثم الحديث السعودي- الأردني- المصري عن ضرورة تجديد السلطة وتأهيلها لتشغل الدور المنشود، مدخلاً جديداً لتوسيع التفكير بالتقدّم للمشهد، خصوصاً أنّ الحديث لم يعُد محصوراً بقطاع غزة، ويتجاوز الشكل الحالي للسلطة والمنظمة، ما يعني تجاوز ما هندسه أبو مازن لسنوات.

بازار المرشحين

لم يتوانَ العديد من اللاعبين، الحاضرين حاليا، أو الطامحين للعودة إلى الحلبة السياسية عن تقديم وتسويق أنفسهم كمرشحين ليتسيّدوا المشهد القادم، ومن لم يكن له منهم ظهير إقليمي أو دولي بحث عن ظهير يقدّم إليه بضاعته ويحظى بدعمه علَّه يجد موقعه على أنقاض غزة ودماء شهدائها وجرحاها، لاهثين خلف سراب إمكانية تحقُّق أهداف الحرب الصهيونية.

أطل محمد دحلان، الحاضر الغائب دائما، المتقدّم والمتأخر حسب تجاذبات المشهد الفلسطيني، الذي يتحرك بدعم إماراتي مطلق وقبول مصري كبير، منذ الحرب العدوانية على غزة، على العديد من وسائل الإعلام، حاملاً خطاباً موارباً يتجنب فيه توجيه إدانات واضحة للمقاومة، أو تبنّياً لموقفها ونهجها، مع نقد دائم لحليفه السابق وخصمه اللدود حاليا، رئيس السلطة، محمود عباس، في ما التقى بقيادة “حماس” أكثر من مرة حاملاً رسائل ومبادرات وأفكار، من ضمنها أفكار بشأن شكل الحكم والاستعداد للتقدّم مع دعم كبير يجنّده من حلفائه، في ما قدّم المعادلة الشهيرة في الإعلام الأمريكي: “حكم فلسطيني بلا حماس وعباس”، بشخصية جديدة تستطيع أن تقود الإعمار ومقبولة من المجتمع الدولي (أنظر مقابلة محمد دحلان مع صحيفة “نيويورك تايمز”).

في البازار ذاته، أطلّ ناصر القدوة، القيادي الفتحاوي السابق والمعارض حالياً لرئيس السلطة، محمود عباس، عبر صحيفة يديعوت أحرنوت العبرية، التي ذكر تقريرها أنّه “في الأشهر الأخيرة يسافر من عاصمة إلى عاصمة في العالم العربي في محاولة لنيل تأييد لخطته لاستبدال الحكم في رام الله وإعمار القطاع”. تمحورت خطة القدوة، التي تحدّث عنها، بدرجة أساسية حول الجملة الذهبية “بعد الحرب ستكون لنا حكومة جديدة تكون مسؤولة عن الضفة وعن غزة في آن واحد، حماس لن تكون جزءاً منها. يمكننا أن نضعف حماس”، مشتركاً مع دحلان في قبول أن يبقى الرئيس الفلسطيني بمنصب شكلي بلا صلاحيات حقيقية.

سبق الاثنان في تقديم نفسه رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض، الذي كتب مقالاً مطولاً في مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية يتحدث فيه عن رؤيته لليوم التالي. ركَز فياض على منظمة التحرير الفلسطينية، ووفقاً لوصفه “يمكن توسيع المنظمة دون أن تضطر إلى التخلي عن متطلبات عملية السلام. لكنّ هذه العملية لا بد من أن تتغير جذرياً على النحو الذي يعالِج الأسباب الجذرية وراء فشلها في تحقيق أهدافها المعلنة على مدى العقود الثلاثة الماضية”.

يتبعه، وفقاً لفياض، تشكيل حكومة توافق عليها منظمة التحرير الموسعة “تتولى المسؤولية الكاملة عن إدارة شؤون الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة في خلال فترة انتقالية متعددة السنوات. في خلال تلك الفترة، ستكون جميع التفاهمات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية وجميع العمليات الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية مدعومة بالتزام متبادل صارم باللاعنف”.

حرص المتسابقون المذكورون وغيرهم على صياغة رؤاهم بما ينسجم مع توجهات الولايات المتحدة، والخطوط العريضة للخطة “السرية”، حسب وصف دحلان لليوم التالي في غزة، وهي خطة جرى نقاشها في لقاءات الرياض بمشاركة مسؤولي الأمن القومي من المملكة العربية السعودية والأردن ومصر والسلطة الفلسطينية، والتي شملت الطلب بوضوح من السلطة تجديد نفسها وإجراء إصلاحات واضحة، لضمان حضورها في المشهد القادم.

لقاء موسكو

بدعوة من جمهورية روسيا الاتحادية، ينعقد مع نهاية شهر شباط/ فبراير لقاء للقوى الفلسطينية، يحمل أجندة اللقاء الوطني الأول منذ حرب الإبادة المستمرة ضد قطاع غزة عنوان ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي بوصفه أولوية في مواجهة العدوان المستمر الذي لا يستهدف قطاع غزة حصرا، بل يحمل في طياته بذور تصفية المشروع الوطني الفلسطيني، واستهداف كل مقومات الصمود والمناعة الوطنية.

شهدت تحضيرات لقاء موسكو مبادرات عدة، جزء منها جديد وجزء آخر تحركت به قوى وطنية وإسلامية منذ بداية الحرب، في ما لم يصل أي منها لأي توافق وطني شامل. تحركت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ الأسبوع الأول في العدوان، حاملة مبادرة لتشكيل قيادة طوارئ وطنية، تجمع الصف الوطني موحداً في مواجهة العدوان وحرب الإبادة، وتتصدى لكل محاولات فرض إملاءات على الشعب الفلسطيني وهندسة قيادته في غرف أجهزة الأمن الدولية.

على الرغم من التوافق على أهمية الخطوة ومبادرة الجبهة الشعبية، اصطدمت المبادرة بعمليات تسويف متعددة المستويات، رحبت بها حركة “حماس” دون خطوات عملية، في ما تعمدت قيادة حركة “فتح” تسويف وقتل الفكرة في مهدها، تارة بالمماطلة في الرد، وتارة أخرى باستدعاء فزاعات التشكيلات البديلة لمنظمة التحرير.

قبيل لقاء موسكو، قدّمت “حماس” مقترحاً يقضي بالتوافق على تشكيل حكومة وحدة وطنية تتولى مسؤولية توحيد المؤسسات، والتجهيز لعقد انتخابات شاملة في الأراضي الفلسطينية في المستوى المنظور، وتتولى مسؤولية إعادة إعمار قطاع غزة، ودعم صمود المواطنين.

لم يحظَ مقترح “حماس” بقبول من “فتح”، التي ردت عليه بمقترح بتشكيل حكومة “تكنوقراط” متوافق عليها وطنياً تتولى المسؤوليات المطروحة، لكنّها تحمل برنامج رئيس السلطة الفلسطينية، الذي تمسك باشتراطاته السابقة التي شكّلت العائق الرئيسي أمام نجاح اجتماع العلمين للأمناء العامين في مصر في أواخر يوليو من العام السابق، إذ يتمسك رئيس السلطة بشرط قبول اشتراطات الرباعية الدولية، ونبذ الكفاح المسلح، والتمسك بالاتفاقيات التي عقدتها منظمة التحرير والتزاماتها الدولية.

إلى جانب المقترحات السابقة حول شكل القيادة الفلسطينية في المستقبل المنظور، أو على الأقل شكل الحكم، ذكر عدد من المصادر أنّ ثمة صيغة قدّمها محمد دحلان إلى قيادة “حماس”، حول حكومة تحظى بدعم عربي كبير يمكن أن تتولى ملف الإعمار بموارد ضخمة وكبيرة، وتحمل معها رزمة من المشاريع الجاهز تمويلها لإنعاش قطاع غزة ومساعدة المجتمع في التعافي سريعاً من الكارثة الكبرى بفعل العدوان، مؤكداً أنّ هذا المقترح يحظى بدعم عدد من الأقطاب في “فتح”، بما فيهم القيادي الفتحاوي الأسير مروان البرغوثي.

استقالة حكومة اشتية

وضع رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتية، استقالتَه تحت تصرف رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، وذلك ” لما تحتاجه المرحلة القادمة وتحدياتها من ترتيبات حكومية وسياسية جديدة تأخذ بعين الاعتبار الواقع المستجد في قطاع غزة”، قبل أيام من لقاء موسكو المنتظر.

في الواقع، فقد بادرت قيادة “فتح” إلى المعاجلة في استقالة حكومة اشتية لاستباق لقاء موسكو وأي صيَغ يجري البحث فيها في مطابخ الإقليم وبرعاية دولية لشكل الحكم الفلسطيني القادم، ما يعني أنّ السلطة ستقدّم مقترحاً جاهزاً بحكومة “تكنوقراط” بمقياس رئيس السلطة إلى لقاء موسكو، وترفقه باشتراطات الرئيس الذي ما يزال يراهن على عدم إمكانية تجاوزه، وأنّه سيبقى البوابة الشرعية لأي ترتيب مستقبلي، خصوصا بعد أن فتح شهيته لاستلام قطاع غزة من الاحتلال “نظيفا” واستعداده للعمل هناك ما بعد الإجهاز على المقاومة.

خاتمة

لن يفضي لقاء موسكو إلى أي نتيجة فعلية، والأطراف المستفيدة منه أولا المقاومة، على أساس أنّ استضافة دولة بحجم روسيا للقوى الفلسطينية، وعلى رأسها قوى المقاومة، كسر لمحاولات العزل الدولية للمقاومة الفلسطينية وكل محاولات ربطها بـ”داعش”.

على الجانب الآخر، تحتاج روسيا إلى هذا اللقاء بوصفِه جزءاً من تأكيد حضورها الدولي الفاعل في كل الملفات الساخنة، وبشكل مغاير عن السياسة الأمريكية وإملاءاتها، وتتعامل مع القضايا بمنظورها الخاص، ما عكسه السلوك الروسي في مجلس الأمن الذي جاء مواجهاً للسياسة الأمريكية، كجزء من المواجهة المتصاعدة بين الدولتين الذي وصلت ذروتها بالحرب على أوكرانيا.

تستثمر روسيا الحرب في قطاع غزة، في إطار خدمة مصالحها وخطابها، وتستعمل ازدواجية المعايير الأمريكية في إطار المزاودة الدولية على الولايات المتحدة ومواقفها المزدوجة ما بين الموقف في أوكرانيا والموقف في الأراضي الفلسطينية، إضافةً إلى تركها الباب موارباً بخصوص طلب المقاومة بأن تكون روسيا أحد الضامنِين للاتفاق.

على المقلب الآخر، فإنّ كل أطروحات وأشكال الحكم وصياغات “اليوم التالي” للحرب فلسطينياً التي تجري في المطابخ الأمنية العالمية وتحركات الدول الإقليمية لن تفلح في فرض أي أشكال خارجية على الشعب الفلسطيني، في ما يقتنع الجميع يوماً بعد يوم أن رهان العديد من الأطراف على انهيار قوى المقاومة رهان خاسر، وأنّ الحاضنة الشعبية للمقاومة، وعلى الرغم من إنهاكها الشديد، ستبقى متمسكة بالناصية الصحيحة، فلن يقرر مستقبل الشعب الفلسطيني إلا أهل فلسطين.