فتحت معركة "طوفان الأقصى" المشهد الفلسطينيّ على أبعاد متعددة للقضية الفلسطينية، ومسارات العمل الوطني المقاوم والمناهض للاستعمار والصهيونية، بوصفها الفكرة، ومن ثم الحركة التي حمّل عليها مشروع إقامة كيان سياسي لليهود في فلسطين.
رغم قساوة المشهد وحجم الألم النّاجم عن حرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ورغم الشعور العام بالتقصير وعدم القدرة على لجم توحّش وفاشية الاحتلال، فإن هذه الحرب -وبمعزل عن الطريقة التي يمكن أن تنتهي بها وتضع فيها أوزارها- يمكن أن تشكل فرصة تاريخية، للقوى الفلسطينية الحزبية والشعبية، وكذلك للنشطاء، لمواجهة المشروع الصهيوني وتعزيز حضور القضية الفلسطينية وحشد الدعم والتأييد لها على صُعد عدة، منها:
أولًا: إعادة الاعتبار للبعد العالمي للقضية الفلسطينية، بوصفها قضية تحرر وعدالة وتقرير مصير لشعب عانى من الاحتلال منذ ما يزيد على المئة عام، خاصة بعد التراجع الكبير في حضور القضية الفلسطينية وتبنّيها من قبل العديد من دول وشعوب العالم خلال العقود الماضية، نتيجة لسياسات عديدة -ومن أكثر من طرف- حاولت حشر القضية الفلسطينية في سياقها الفلسطيني فقط، وتجريدها من بُعدها العربي والإسلامي، ناهيك عن العالمي.
إن حجمَ التأييد الشعبي والتحولات في الرأي العام العالمي -الذي ترتّب على هذه الحرب، سواء لاعتبارات الدعم والدفاع عن القيم الإنسانية والعالمية كالحرية والعدالة، أو لرفض ومواجهة الظلم والإجرام والفاشية والإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال بحقّ الفلسطينيين- كبيرٌ وعميقٌ إلى حد يمكن معه القول إن القضية الفلسطينية أصبحت اليوم هي قضية رأي عام دولي، وقضية دول وشعوب كثيرة على مستوى العالم، لا تنتمي للعالم العربي والإسلامي، بل إن بعضها أصبح بحكم الموقف والممارسة هو أقرب للشعب الفلسطيني وللقضية الفلسطينية من أي دولة عربية.
فدولة جنوب أفريقيا وشعبها اليوم هم أقرب إلى فلسطين وأعمق صلة من دول كثيرة مجاورة لها جغرافيًا وتربطها بها روابط تاريخية ودينية وقومية. وكذلك العديد من شعوب ودول العالم، هم أكثر التصاقًا وتفاعلًا مع معاناة الشعب الفلسطيني وحقوقه من كثير من الشعوب في المنطقة.
ثانيًا: وضع "إسرائيل" في قفص الاتهام أمام العدالة الدولية، الأمر الذي يحدث لأول مرة في تاريخها، فقد عاش الفلسطينيّ طوال عقود الاحتلال وهو يتعامل مع عدوّ فوق القانون، وتتوفر له الحماية القانونية، فضلًا عن السياسية والعسكرية والاقتصادية من قبل القوى المهيمنة على النظام الدولي.
لكن هذه الحرب وما وقع فيها من جرائم فاق قدرة العالم الغربي على الاستمرار في توفير الحصانة القانونية للاحتلال، ووجدت "إسرائيل" نفسها في قفص الاتهام أمام أهمّ منصة قانونية دولية (محكمة العدل الدولية)، وقريبًا ستجد نفسها في قفص الاتهام أمام المحكمة الجنائية الدولية، وعدد كبير من المحاكم القُطْرية في العديد من دول العالم.
وذلك نتيجة جهد ليس فقط لدول كجنوب أفريقيا، بل ولمئات، إن لم يكن آلاف المحامين والحقوقيين والمؤسسات الحقوقية، الذين استجابوا لنداء ضمائرهم وقيمهم الرافضة للعدوان والظلم والإجرام.
ما يعني أن الاحتلال الإسرائيلي سيواجه -ولسنوات طويلة- معركة قانونية قاسية، ستهشّم وجهه وصورته الزائفة التي رسمها بدعم غربي، وحاول من خلالها تضليل دول وشعوب كثيرة حول العالم، وسيقف ابتداء من هذه اللحظة في الخانة الصحيحة التي تمثّله كاحتلال فاشيّ وعنصريّ ومجرم.
ثالثًا: التحول في العديد من المواقف الرسمية وزيادة الحديث العلني عن -والتعبير عن الرغبة في- الاعتراف بدولة فلسطينية، والإقرار بالحقوق السياسية للفلسطينيين، دون انتظار "عملية سلام" أو "تسوية سياسية"، ودون مراعاة موقف حكومة الاحتلال. فحتى الرعاةُ التاريخيون للكيان -الولايات المتحدة وبريطانيا- تحدثوا علانية عن إمكانية الاعتراف بدولة فلسطينية، كما ورد على لسان وزراء الخارجية في الدولتَين.
فلم يعد الأمر مقتصرًا فقط على عدالة القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين، كما غيرهم من شعوب العالم، في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، بل إن تقدير هذه الدول -وبالذات الصديقة والحليفة لـ "إسرائيل"- أن الطريق الوحيد لضمان الاستقرار والأمن في المنطقة مرتبطٌ بالقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وأن كل محاولات تجاوز الفلسطيني وقضيته لم ولن تنجح.
فلا الاتفاقيات الثنائية ولا الرعاية الأمنية والعسكرية، ولا التطبيع مع العديد من الدول العربية، يمكن أن يجلب الاستقرار والأمن. فقط هو إعطاء الفلسطينيين حقوقَهم والتعامل معهم بما يستحقونه من احترام وتقدير يمكن أن يقود إلى ذلك.
رغم هذا التطور في المواقف، فإن أحدًا لا يمكنه أن يبيع الوهم تجاه دور وموقف الولايات المتحدة تحديدًا المنحاز بالمطلق للاحتلال، إلا أن ذلك سيشكل فرصة للفلسطيني للعمل مع العديد من الدول الأخرى للاستمرار في ممارسة الضغط لإنجاز الحقوق الفلسطينية، على قاعدة أن الاستمرار في التماهي مع رؤية وسياسات الاحتلال يشكل خطرًا دائمًا، وينعكس بشكل خطير على الأمن والسلم الإقليمي والدولي.
رابعًا: التغيير الكبير في صورة "إسرائيل"، كما كان يحلو لقياداتها- وبالذات بنيامين نتنياهو- أن يروّجوا أمام العالم، وبالذات الغربي منه، بوصفها تشكل الامتداد الحضاري للغرب في مواجهة "بربرية الشرق"، والديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط التي تعيش في محيط من الأنظمة الشمولية والدكتاتوريات، وأنها دولة القانون واحترام حقوق الإنسان، في محيط يسوده القمع والاستبداد.
هذه الصورة تغيرت بشكل كبير، وأظهرت هذه الحرب الوجه الحقيقي للاحتلال، ونفت عنه كل مزاعم التحضر والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، كاشفة عن حجم العنصرية والتوحش والفاشية الكامنة في أعماقه والمنتشرة بين مكوناته المختلفة.
لقد تلاشت أيضًا صورة الضحية والمضطهد والمُهَدد وتنامت صورة التوحش والإجرام والإبادة الجماعية والخطابات الفاشية. في ذات الوقت برزت بشكل كبير الصورة الحقيقية للشعب الفلسطيني، وتنامت الانطباعات الإيجابية حوله على مستوى العالم، فالفلسطيني اليوم هو الإنسان الصامد المضطهد الذي يفيض بمعاني الإنسانية والشجاعة والكرامة والصبر.
رغم الانحياز المخلّ من قبل وسائل الإعلام الغربية ودورها المعيب وغير المهني، وبالذات في بداية الحرب، حين تبنّت الرواية الصهيونية المزيفة بشكل كامل، فإن حجم الجرائم الإسرائيلية، ومستوى الانحطاط في السلوك العسكري، وتطور خطاب الكراهية والفاشية والعنصرية لدى جمهور ونخب الاحتلال، والذي لم يسلم منه أحد -سياسيين وعسكريين وأكاديميين وصحفيين- قد فاق كل ذلك قدرة الإعلام الإسرائيلي والغربي على التضليل وتزييف الحقائق، وسرعان ما ظهرت الصورة جلية واضحة، وامتلأت شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي بصورة الدمار والمجازر والإرهاب الذي مُورس بحق الفلسطينيين. وكشفت أشلاء وجثث الضحايا المدنيين- وبالذات من النساء والأطفال – حجمَ الجريمة وزيف الادعاءات حول تحضر وأخلاقية جيش الاحتلال.
تضع هذه التحولات وغيرها الفلسطينيين وأصدقاءهم أمام مسؤوليات كبيرة، للبناء على هذه التحولات الإستراتيجية والآفاق الكبيرة التي تلوح في الأفق، واستثمارها لصالح القضية الفلسطينية وحركة النضال الفلسطيني المستمر لنيل حقوقه.
وهي تقود إلى العمل على قاعدة أن القضية الفلسطينية قضيةٌ عالميةٌ معنيٌّ بها كل مؤمن بالإنسان وكرامته وحقوقه الأساسية، وهي بذلك تحتاج من الفلسطيني- وبالذات من قوى المقاومة- فلسفة عمل وآليات وهياكل جديدة وربما مختلفة عن القائم اليوم.