لا تعرف الوقاحة الإسرائيلية حدوداً ولا سقوفاً، وهي لا توفّر عدواً ولا صديقاً، ولا حتى حليفاً. كل شيء يتمركز حولها، المهمّ مصالحها ومصالح قادتها، وبعد ذلك، فليتضرّر من يتضرّر، وليدفع ثمن أنانيتها حتى أشدّ الناس والدول إخلاصاً وإسناداً لها. حتى الولايات المتحدة، التي تمثل الحبل السُّرِّيَ بالنسبة لإسرائيل، التي لولاها لما كان لها أن تستمرّ، لم تسلم من التجسّس عليها من قبل متلقي نعمتها، ولا حتى من ارتكاب الجرائم بحق جنودها المكلفين بحماية إسرائيل نفسها، كما جرى في واقعة قصف سفينة التجسّس الأميركية "يو أس أس ليبرتي" عام 1967، أو من التنكّر لمصالحها والمسِّ بها، أو من جحود عونها، أو محاولة تعطيل استراتيجياتها الكبرى، كما في الاتفاق النووي مع إيران عام 2015. ليس هذا فحسب، فهذا جو بايدن، الرئيس الأميركي الذي وقف مع إسرائيل منذ عملية طوفان الأقصى وقوفاً مطلقاً، وقدّم لها دعماً عسكرياً وديبلوماسياً وسياسياً غير مسبوق، أضرَّ بالمصالح الأميركية الحيوية، بل ويواجه احتمال خسارة الانتخابات الرئاسية هذا العام جرّاء تواطئه هذا، لا يجد إلا تنكّباً من بنيامين نتنياهو وكثير من وزراء حكومة الأخير الذين لا يكفّون عن توبيخه وتوبيخ أركان إدارته. يبدو بايدن اليوم كمن يستجدي عطف نتنياهو وحكومته المتطرفة لتفهم تعقيدات الحسابات الأميركية الجيوسياسية، وحراجة موقفه انتخابياً، ولكن لا حياة لمن تنادي. إنه المنطق مقلوباً. ولكن تلك حكاية أخرى.
اتّخذت الوقاحة الإسرائيلية تعبيراً آخر يوم الجمعة الماضية (12/1/2023)، ففي مرافعته في جلسة الاستماع لقضية "الإبادة الجماعية" التي أقامتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، زعم محامي الدفاع عن الدول العبرية، كريستوفر ستاكر، أن مصر هي من تتحمّل مسؤولية دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة. وقال: "الوصول إلى قطاع غزّة يتم من خلال مصر، وإسرائيل ليس عليها أي التزام بموجب القانون الدولي بالسماح بالوصول إلى غزّة عبر أراضيها". يتجاهل هذا الأفّاق إن إسرائيل تفرض حصاراً وحشياً على القطاع منذ عام 2007، قائم على حساب السعرات الحرارية المسموح لكل شخص فيه باستهلاكها يومياً، وهو الأمر الذي كان كشف عنه جيش الاحتلال عام 2010 بأمر من المحكمة العليا الإسرائيلية. دع عنك هنا جرائم الحرب التي ما فتئت إسرائيل ترتكبها في القطاع، وتضاعفت كمّاً وهمجيةً في العقدين ونيف الأخيرين. لكن ذلك كله يهون أمام حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل ضد قطاع غزّة وسكانه منذ ما يزيد على ثلاثة أشهر، ولا تحتاج تصريحات كبار مسؤوليها إثباتاً، فهي موثقة صوتاً وصورة، وهم يعلنون قطع الماء والطعام والدواء والوقود عن أكثر من مليوني إنسان من دون أدنى إنسانية أو رحمة. ورغم المناشدات الأممية والدولية، وحتى الأميركية، بالسماح بدخول مزيد من المساعدات الإنسانية إلى القطاع وسكّانه المنكوبين، فإن تل أبيب لا تزال تناور وتعطل وتمنع ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، حتى أصبحت المجاعة في قطاع غزّة حقيقة قائمة، وتحوّلت شوارع مدنه وقراه المدمّرة إلى مقابر جماعية، ومستشفياته ومدارسه ومنشآته العامّة إلى أنقاض مدفون تحتها آلاف الشهداء.
مع ذلك، مصر الرسمية مدانة من دون تورية هنا. معبر رفح معبر مصري – فلسطيني، وليس مصرياً مع الاحتلال الإسرائيلي، كما زعم رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصري، ضياء رشوان، في ردّه على اتهام ستاكر الوقح. كما أن مصر الرسمية تفرض حصاراً على قطاع غزّة منذ عام 2007، أي أن تاريخه يتزامن مع بدء الحصار الإسرائيلي بعد سيطرة حركة حماس عليه في ذلك العام. وكلنا يذكُر كيف حارب نظام الرئيس الأسبق، حسني مبارك، الأنفاق بين رفح الفلسطينية ورفح المصرية، والتي كانت بمثابة شريان الحياة الذي يغذّي مليوني فلسطيني. ومنذ عام 2014، تحت نظام الرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي، أخلى الجيش سكّان رفح المصرية المقيمين على طول الحدود مع فلسطين المحتلة (14 كيلومتراً)، وبعمق كيلو ونصف، بحيث تمَّ هدم آلاف المنازل، وتشريد آلاف العائلات، مع أن هدم الأنفاق بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية لم يكن يستوجب هذه الإجراءات التعسّفية، كما جاء في تقرير لمنظمة هيومان رايتس ووتش الأميركية، عام 2017.
واليوم، يتابع الفلسطينيون والمصريون والعرب بأسى تكدّس المساعدات الإغاثية على الجانب المصري من معبر رفح، بحجة أنها لم تنل الموافقة الإسرائيلية، أو بذريعة أن "سيادة مصر تمتد فقط على الجانب المصري من معبر رفح، بينما يخضع الجانب الآخر منه في غزّة لسلطة إسرائيل الفعلية"، كما جاء في بيان رشوان، وهو كلام عار عن الصحة. أيضاً، لم يشأ رشوان أن يفوّت فرصة تذكيرنا بعار قبول النظام المصري أن تفتش تلك المساعدات إسرائيلياً، أولاً، في معبر كرم أبو سالم، قبل أن تأذن بدخولها إلى القطاع المنكوب، إن أذنت. دعْ عنك هنا تلك الأخبار المُخجلة التي يتناقلها الفلسطينيون خارج قطاع غزة ممن يحاولون إخراج عائلاتهم منه من أن قوات الأمن المصرية تفرض رسوماً على كل شخصٍ يراد إخراجه، حسب الجنسية الأجنبية الثانية التي يحملها، أو جنسية من يَسْعى له، والتي قد تصل إلى أكثر من عشرة آلاف دولار على الفرد الواحد. يقال الأمر نفسه عن التعنّت في إخراج المصابين بإصاباتٍ خطيرة للعلاج، أو حتى توفير الماء والطعام والأدوية والوقود والكهرباء وشبكة الاتصالات للمحاصرين في قطاع غزّة.
للأسف، نزعت هذه الممارسات المهينة كثيراً من أوراق المناورة والتأثير من يديّ النظام المصري. ففي جولته في المنطقة، الأسبوع الماضي، جعل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، مصر محطّته الأخيرة، بعد أن تفاوض مع دول عربية أخرى ومع إسرائيل على مستقبل قطاع غزّة. هو لم يأبه بأخذ رأي مصر التي حكمت القطاع عسكرياً قرابة عقدين، منذ عام 1948، بعد النكبة الفلسطينية، وحتى 1967، عندما احتلت إسرائيل بقية فلسطين التاريخية. سقطت غزّة مرتين عسكرياً في يد إسرائيل حين كانت تحت إدارة مصر، الأولى في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 1956، واستمرّ احتلالها لها حتى مارس/ آذار 1957، عندما اضطرت إلى الانسحاب منها بضغوط أميركية – سوفييتية. والثانية كانت عام 1967. ومع ذلك، يبقى قطاع غزّة ضمن الفضاء الاستراتيجي الحيوي لمصر، والأصل أن لا تقبل القاهرة أبداً أن يتقرّر مستقبل القطاع أجنبياً بعيداً عنها. لكن ذلك يقتضي أن تكون مصر هي مصر، القاطرة العربية، لا المقطورة، والثقل العربي الحقيقي، لا الملحق في خارجيات دول عربية هامشية.
نتمنّى أن تكون الإهانتان الإسرائيلية والأميركية الوقحتان لمصر جرس إنذار يستفزّ مصالحها القومية، إذ لم نعد نراهن على مشاعر العروبة والإسلام. لا إسرائيل، التي ترتبط معها مصر بمعاهدة سلام منذ أكثر من 45 عاماً تقيم وزناً لاعتباراتها وحساباتها الاستراتيجية، ولا الولايات المتحدة، الخاضعة بدورها لابتزاز إسرائيل الوقح، تراعي الحساسيات المصرية. لا نريد من مصر أن تعود إلى قطاع غزّة، فهذا جزء من الأرض الفلسطينية، ولا نريدها أن تتدخّل في شؤونه الداخلية، فهذا أمر أهله، ما نريده منها أن تضع حسابات الإيديولوجيا جانباً، وأن تترفّع عن المنطق الجبائي في التعامل معه، وأن تكيّفه ضمن ميزان الاستراتيجيا العليا لدولةٍ بحجمها. تُرى هل تفعلها مصر وتنهض من جديد دفاعاً عن مصالحها وثقلها الإقليمي على الأقل؟