بمناسبة مرور مئة يوم على بدء الحرب "الإسرائيلية" على قطاع غزّة، ألقى الناطق باسم كتائب عزالدين القسام "أبو عبيدة" خطابًا مصورًا حمل العديد من الرسائل في الشكل والمضمون، عُدَّت تفنيدًا لجزء مهم من خطاب دولة الاحتلال وادعاءات مسؤوليها السياسيين والعسكريين مؤخرًا.
مئة يوم
دولة الاحتلال، التي طالما خاضت حروبًا خاطفة لا تمتد لأكثر من أيام أو أسابيع، وصلت في عدوانها الأخير على قطاع غزة إلى اليوم المئة. وقد كان اليوم المئة مناسبة لعمل إعادة تقييم وجردة حساب للحرب ومجرياتها وأهدافها ومحاولة استشراف نتائجها المحتملة ومآلاتها من قبل مختلف الأطراف.
وقد أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية عن أن حصيلة الشهداء والمفقودين وصلت إلى واحد وثلاثين ألفًا مع اليوم المئة للعدوان، في مؤشر واضح على مدى فداحة الأوضاع الإنسانية في القطاع، لا سيما إذا ما أضيف لذلك تدمير البنى التحتية، واستهداف كل المرافق الحيوية من مستشفيات ومراكز حكومية وأفران ومراكز إيواء، فضلًا عن دُور العبادة من مساجد وكنائس، مضافًا لسياسة الحصار والتجويع في إطار خُطة التهجير التي لم يلغها الاحتلال تمامًا من حساباته؛ رغم أنَّ سكان غزة قد أفشلوها فشلًا ذريعًا حتى اللحظة.
بالتزامن مع اليوم المئة، بل قبله بقليل، وعلى هامش زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن للمنطقة بدأ بعض المسؤولين "الإسرائيليين" بالحديث عن قرب البدء بما أسموه "المرحلة الثالثة" من الحرب على غزة، والتي تتمثل في الانسحاب شبه الكامل من شمال القطاع، والبقاء على تخومه والاكتفاء بعمليات "موضعية" بين الحين والآخر، إضافة لتراجع وتيرة استهداف وسط القطاع وجنوبه.
إذ رغم أن الولايات المتحدة لا تريد وقف إطلاق النار بالكلية، فإنها ترغب بتراجع حدة استهداف المدنيين – فضلًا عن استنزاف جيش الاحتلال – لما يسببه لها ذلك من حرج وأضرار سياسية، خصوصًا مع بدء نظر محكمة العدل الدولية في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا.
الترجمة العملية لما سبق أن الاحتلال يضطر بعد زهاء مئة يوم- من حرب مجنونة لم تعرف حدودًا ولا راعت قانونًا أو عرفًا- للتراجع؛ لأنه لم يحقق أيًا من أهدافه، واستمرت خسائره التي تستنزفه، فاضطر للرضوخ للضغوط الداخلية والخارجية التي تمارس عليه، واضعًا ما سبق في إطار "إدارة الحرب وإعادة التموضع"، بينما هو على الحقيقة جزء من الاعتراف بالفشل.
وبالتوازي مع ذلك، فقد ادعى الناطق باسم جيش الاحتلال وبعض المسؤولين السياسيين بأن الأخير استطاع تقويض القدرات العسكرية لحركة حماس بنسبة كبيرة (البعض ذكر نسبة 80 % لبعض المناطق)، وتحديدًا تهديد الصواريخ، ليأتي الرد مباشرة عبر رشقات من الصواريخ نحو محيط قطاع غزة، وكذلك مناطق في العمق مثل تل أبيب، في تفنيد مباشر وصريح لهذه الادعاءات، قبل أن يأتي خطاب "أبو عبيدة" ليكمل المهمة.
رسائل الخطاب
كان الخطاب الذي ألقاه الناطق العسكري "أبو عبيدة" الأول من نوعه منذ الأسبوع الأخير من نوفمبر /تشرين الثاني 2023، أي منذ ما يقرب من شهرَين كاملين، حين ادعت بعض المصادر العبرية استهدافه وقتله، حيث غاب حينها عن الظهور زهاء عشرة أيام، ثم عادت بعدها تسجيلاته الصوتية فقط.
وبهذا المعنى، يكون ظهوره بالصوت والصورة لمناسبة اليوم المئة على العدوان، رسالة تفنيد إضافية لادعاءات مقتله، رغم أن استهدافه ممكن كأي مشارك في المعركة وإصابته أو استشهاده -إن حصل- لا يعني منجزًا كبيرًا للاحتلال.
بَيدَ أن الرسالة الأبرز والدلالة الأوضح للخطاب، تتمثلان في قوة "القسام" وصمودها وحضورها في اليوم المئة للحرب، على عكس ادعاءات الاحتلال بضعفها وتراجع أدائها وتآكل عناصر قوتها. ذلك أن الرسالة الإعلامية المرئية، من قبيل الفيديوهات التي توثق لعمليات المقاومة والتي توجّت بخطاب "الملثم"، هي المنتج النهائي في سلسلة طويلة من الأعمال العسكرية والإعلامية، مثل: الرصد والمتابعة والتخطيط والتنفيذ والتوثيق والاتصال والمونتاج ورسم الرسالة الإعلامية والخطاب السياسي المناسب والإشارات المركزية المطلوبة وغير ذلك، ثم إيصالها لوسائل الإعلام.
وبالتالي فإن ظهور المنتج النهائي بهذه القوة والجودة والوضوح، يعني سلامة كل ما سبق من سلاسل وخطوات، وبالتالي فخطاب "أبو عبيدة " عادة – والأخير على وجه الخصوص- هو رسالة قوة واستمرار وسلامة في هياكل القيادة والسيطرة والتواصل وإدارة الحرب عسكريًا وإعلاميًا لكتائب القسام.
في المضمون، كان الخطاب قويًا متفائلًا متحديًا، كما دائمًا، دون أدنى تلعثم أو محتوى مشوش أو رسائل عشوائية، بما في ذلك لغة التحدي الواضحة والثقة بالنصر والهزيمة الوشيكة للاحتلال، حيث قال: إن قيادته "تتجرع الألم وتغوص في وحل الفشل والإخفاق" على حد تعبيره. ولعل ذلك من أسباب عدم إتيان الخطاب على نعي القيادات السياسية والعسكرية التي استشهدت خلال الحرب، وفي مقدمتهم الرجل الثاني في حركة حماس الشيخ صالح العاروري.
ورغم ذلك، فقد كان الخطاب مقدرًا لإمكانات الاحتلال العسكرية والدعم الذي يحصل عليه، فضلًا عن استشعاره لتضحيات الحاضنة الغزية خاصة والشعب الفلسطيني عمومًا في هذه الحرب والتعبير عن تقديرها والفخر بها، حيث عدَّ الأداء العسكري والصناعات الدفاعية تابعًا لـ "صناعة الإنسان" كما أسماها.
ومن أهم رسائل الخطاب التأكيد مجددًا على "فلسطينية" معركة "طوفان الأقصى"، من حيث الدوافع والأسباب التي أعاد التذكير بها، مؤكدًا أحقيتها وسلامة توقيتها، ومن حيث الأسلحة المصنّع جلها في غزة، وكذلك من حيث الأداء الميداني والسياسي. ورغم ذلك، لم ينسَ أن يشيد بأداء المشاركين في الحرب المشتبكين مع الاحتلال خارج غزة، وخصوصًا في لبنان واليمن والعراق.
وحين أشار "أبو عبيدة" إلى احتمالات توسع الحرب وامتدادها جغرافيًا، واضعًا ذلك من زاوية ما ضمن رسائل "شركاء المعركة"، فإنه كان يشير ضمنًا إلى استعداد الكتائب وفصائل المقاومة عمومًا لهذا الاحتمال.
ولعل في شرط وقف العدوان قبل أي خطوة أخرى في المسار السياسي، تأكيدًا إضافيًا على أن المقاومة ليست مأزومة أو مضغوطة في الميدان، بل تراهن على استمرار استنزاف قوات الاحتلال بحيث يخضع الأخير لشروطها.
شمل الخطاب تفنيدًا مباشرًا لبعض ادعاءات الاحتلال والناطق باسم جيشه بخصوص السيطرة على الأرض أو كشف شبكات أنفاق مهمة أو تدمير منصات إطلاق صواريخ أو مستودعات أسلحة، حيث وضع كل ذلك في إطار "الإنجازات المزعومة". كما كانت إحدى أقوى الرسائل تلك المتعلقة بالأسرى والمحتجزين، حيث حمل الاحتلال مسؤولية مقتل العديد منهم، وكون مصير العديد منهم مجهولًا، بينما الباقون قد "دخلوا نفق المجهول بفعل العدوان"، ما يعني عمليًا صعوبة الحديث عن أي صفقة تبادل قبل وقف العدوان.
وأخيرًا؛ فقد ذكر الخطاب استهداف ألف آلية للاحتلال من مختلف الأنواع وإخراجها من الخدمة منذ بدء الحرب، وهو ما قدره خبراء عسكريون بآليات ثلاث فرق عسكرية كاملة، إضافة للإشارة للعدد الكبير من الضباط والجنود الذين خسرهم الاحتلال في غزة دون تحديد عددهم، مع التأكيد على فقدانهم للدافعية والشجاعة والإقدام في المواجهات.
وفي الخلاصة، فقد كان خطاب الناطق باسم كتائب القسام "أبو عبيدة" الذي تكاملت رسائله مع رشقة صواريخ تجاه أسدود من قطاع غزة ردًا مباشرًا على خطط الاحتلال وتفنيدًا لادعاءاته بالقضاء على حماس وتفكيك بناها القيادية وتقويض قدراتها العسكرية، وبالتالي تأكيدًا على حضور وقوة المقاومة عمومًا وكتائب القسام خصوصًا، بل واستعدادها للآفاق المستقبلية للحرب بما فيها توسعها وامتدادها، ورفض أي مبادرات لا تبدأ بوقف العدوان، كل ذلك من موقف قوة.