غزة - قدس الإخبارية: مع ساعات مساء الثالث والعشرين من أكتوبر/ تشرين أول 2023، كان خالد أبو عامر يصغي لصوت هدير محركات الطائرات الإسرائيلية التي لم تتوقف عن التحليق جيئة وعودة في السماء ومستويات منخفضة ومرتفعة، وكأنها في سباق لمن تسبق الأخرى في إلقاء الصواريخ أولاً على المواطنين الآمنين في قطاع غزة وهدم المنازل فوق رؤوس ساكنيهم في أبشع صور المجازر الجماعية التي لم يشهدها التاريخ، وكذلك كان يستمع لصوت المذياع مع انقطاع التيار الكهربائي يحاول مواكبة أخبار المجازر المتسارعة التي لم يستوعبها عقل بشري.
لم تدم تلك الحالة داخل شقته الواقعة في أبراج "الصالحي" بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة، حيث تأوي 20 شخصًا من أفراد عائلته فالقصف في تلك اللحظة استهدف الطوابق العلوية من البرج ذاته، في لحظة انهار ركام كبير على الطوابق الأسفل واخترق سقف الغرفة التي نام فيها طفله جهاد (عامان ونصف).
على مدار عدة دقائق ظل الغبار يفترش المكان، ويحجب الرؤية إلى أن تمكن أبو عامر وأقاربه من نقل الناجين خارج البرج، وتفاجأ بعدم وجود طفله "جهاد" بينهم، ليفتش في حالة من الهلع والخوف على مصيره بين الردم والركام بحثا عنه.
ردم كبير
"تعرفنا على قدمه وكان مغطى أسفل الركام قرابة متر ونصف انهالت عليه، فأزلنا الركام وحملته وذهبت به لمستشفى العودة وشعرت خلال الطريق القصير الذي لا يتجاوز أقل من 300 متر أن ابني استشهد، فلاحظت برودة جسده ولم يكن هناك أي تنفس، وفور وصولنا المستشفى أخبرني الأطباء باستشهاده رغم محاولتهم الحثيثة إجراء الإسعافات اللازمة له" يتدفق الحزن من قلب والده وهو يروي لشبكة قدس قصته.
وأضاف وهو ينتشل بقية التفاصيل "كان التشخيص الطبي بوجود نزيف داخلي بمنطقة الرأس، وهذا يرجح أن الصوت المرتفع جدا الذي سقط على البرج تسبب بتدمير دماغه، وكذلك جرى تأكيد وجود حالة اختناق نتيجة انهيار الكم الكبير من الركام على جسده الذي لم يتحمل الألم".
عاد أبو عامر لمنزله وهو يحمل طفله بكفن أبيض ليدفن مع سبعة شهداء جلهم أطفال ونساء كانوا حصيلة المجزرة التي ارتكبها الاحتلال باستهداف البرج، ولد طفله جهاد في آخر يوم بمعركة "سيف القدس" في 21 مايو/ أيار 2021 واستشهد في العدوان الإسرائيلي على غزة المتواصل منذ 7 أكتوبر/ تشرين أول الماضي، ليولد ويستشهد في الحرب.
ولم تكن المسافة الزمنية بين العدوانين سوى مساحة فرح أنار فيها حياة والديه بصوته وحضوره داخل المنزل كطائر "كناري" كان يغرد بصوته العذب داخل قلبيهما ويملأ حياتهما سعادة كما ملأهما رحيله حزنا وألما يتجرعان مرارة الفقد، حينما حلقت روحه بعيدا عنهما وأحدث فارغا كبيرا في البيت الذي لم يعد يسكنه صدى صوته وبقع دماء تناثرت من جسده على بعض حجارة المنزل لتذكرهم به.
صمود بين الردم
بعد مرور أكثر من شهر على القصف "الهمجي" عاد أبو عامر لمنزله وهو قرابة 35 عائلة من جيرانه لا زالت موجودة داخل مبنى البرج يمارسون حياتهم في حالة "الطوارئ" كما هو حال سكان القطاع بالرغم من وجود صاروخ لم ينفجر ألقته الطائرات الإسرائيلية، وهي رسالة "أن سياسة الاحتلال لن تثني شعبنا عن بقائه وصموده في هذه المحنة" قال تلك الكلمات بصوت متماسك وصلب.
من المشاهد اليومية التي لا تفارق ذاكرته، حتى في وقت العدوان العصيب كيف كان يأتيه طفله "جهاد" ويلتصق بحضنه محاولا البحث عن أمان، أو عندما يصطحبه للشارع ليتمشى قليلا ويحضر له ما يمكن أن يتوفر من "البقالة" عله ينسى أو يخفف عنه أهوال "الحرمان الذي تسببت به هذه الحرب".
منذ رحيل "جهاد" وغياب حضوره من المنزل، لم تتوقف شقيقته كندة (4 أعوام ونصف) عن سؤال والدها "أين جوجو؟" كما تحب أن تنادي شقيقها، يعلق والدها وهو يربط على جرح قلبه: "حاولت أن أجد من الكلمات التي ربما يستوعبها عقلها بأن أخوها قد رحل وهو ينظر إلينا من السماء ومع الوقت استطاعت استيعاب الأمر، لكن ما يوجع القلب هي لحظة رؤيتها لطفلين شقيقين (بنت وذكر) يلعبان بينما تقف متفرجة بعينين حسرة ودموع فراق تعيد نبش ذاكرتها حينما كانت تلعب مع شقيقها".