يتحدث الكثير من الخبراء عن تغييرات طرأت على مجتمع الاحتلال منذ تأسيس الكيان حتى اليوم، فمع تحول هذا المجتمع إلى نمط أكثر ليبرالية وماديّة، وارتباطه بالحداثة والحياة المرفهة، يُشير هؤلاء إلى التباين ما بين المجتمع الحالي وما سبقه، وخاصة قبل سبعينيات القرن الماضي، الذي جاء تاليا لمرحلة التأسيس، فقد كانت سمة تحمل الخسائر من أبرز مزاياه، مع تفاصيل يُمكن الحديث عنها باستفاضة في مقال قادم، واعتمادا على المراجع والدراسات المختلفة.
وعلى إثر هذه التغيرات التي أصابت هذا المجتمع، من حيث تركيبته وما يحتويه من تباينات، وتطور اقتصاده وارتباطه بالنموذج الليبرالي، لدرجة محاولة التماهي مع النموذج الغربي، والإصرار المتكرر على أن دولة الاحتلال هي واحة الديمقراطيّة في المنطقة، ومن ثمّ فتح المجال أمام "الشذوذ"، وتقديم "تل أبيب" المحتلة على أنها "عاصمتهم" في العالم، وبعيدا عن أن هذه الادعاءات محاولة للتستر على جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين، إلا أن هذه الادعاءات جزءٌ من هذه التغييرات المتلاحقة.
ومع استمرار الحرب على غزة ودخول الاجتياح البري يومه السابع والعشرين، يتفاقم ما يتكبده المحتلّ ومجتمعه، بمختلف الأنواع والأشكال، من الاقتصاد إلى الأمن، وصولا إلى الرواية والسردية، وهو ما اضطر الاحتلال إلى اتخاذ جملة من الخطوات في محاولة رأب الصدوع المختلفة التي مُني بها.
ونقدم في هذا المقال إطلالة على أبرز خسائر الاحتلال منذ بداية العدوان على غزة، من خلال التركيز على ثلاثة عناوين أساسية.
على الصعيد البشري
على الرغم من تكتم الاحتلال عن خسائره البشرية منذ ابتداء العملية البرية، وإشارة العديد من المصادر إلى أن أعداد قتلى الاحتلال أكبر بكثير من الأرقام المعلنة، التي توقفت عند مقتل أكثر من 1200 إسرائيلي وإصابة ألفين آخرين، واحتجاز أكثر من 240 شخصا لدى فصائل المقاومة، بينما يُعلن جيش الاحتلال عن أعداد القتلى بشكل شبه يومي ولكن بأعداد محدودة.
ومما يؤكد أن أعداد القتلى أكبر بكثير من المُعلن، تقريرٌ لواحدة من القنوات العبرية، تحدثت مع مسؤول في إحدى المقابر، وقال بأنهم ينظمون في كل ساعة جنازة، وفي يومين قبل تصوير التقرير جرت في المقبرة أكثر من 50 جنازة، وهي أرقامٌ أضخم بكثير من المعلن، وتُشير بلا ريب إلى أن أعداد قتلى جيش الاحتلال أضعاف ما أُعلن عنه، وهي محاولة من قبل جيش الاحتلال للحفاظ على صورته، والتكتم عن فداحة خسائره، على الرغم من حشده المهول.
أما الإشارة الثانية التي نقلتها إذاعة جيش الاحتلال عن رئيس جمعية المعاقين في الجيش، أنه منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر "تم الاعتراف بـ1600 جندي مصاب كمعاقين جسديا، من بينهم 400 لا يزالون يتلقون العلاج في المشافي". وأشار في حديثه إلى أنهم سيستقبلون آلاف الجنود الآخرين الذين يعانون من "صدمة ما بعد القتال"، وهي نتيجة حتمية للتصدي البطولي للتوغل البري.
وتكفي المقاطع المصورة التي تنشرها فصائل المقاومة، لمعرفة حجم الخسائر التي تكبدها جيش الاحتلال في الآليات والجنود على حدّ سواء.
على الصعيد الاقتصادي
يعاني اقتصاد الاحتلال من صعوبات جمة، امتدت من انهيار الشيكل الإسرائيلي في الأيام الأولى للحرب، واضطرار المصرف المركزي لضخ المليارات للحفاظ عليه، وصولا إلى التراجعات المهولة في مجمل القطاعات الإنتاجية الإسرائيلية، وفي مقدمتها قطاعا التكنولوجيا والإنشاءات. وهي ضربات ستؤثر على مجمل المشهد الاقتصادي الإسرائيلي، وارتفاع عجز الموازنة من 1.5 في المئة، إلى 4 في المئة في العام الجاري، بينما سيصل العجز إلى 5 في المئة في عام 2024. وإلى جانب العجز، يسجل اقتصاد الاحتلال تراجعا شهريا في الناتج المحلي الإجمالي، يصل إلى نحو 10 مليارات شيكل (نحو 2.5 مليار دولار أمريكي).
ومع تصاعد تكاليف الحرب من جهة، وفاتورة الاقتصاد من جهة أخرى، بدأ جيش الاحتلال في تسريح أعداد من جنود الاحتياط، في محاولة لإعادة عجلة العمل في دولة الاحتلال على أثر توقفها منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وفي منتصف الشهر الجاري، أعلنت وزارة المالية في حكومة الاحتلال، أنها استدانت نحو 30 مليار شيكل (نحو 7.8 مليارات دولار) منذ بدء الحرب على غزة، وبحسب مصادر عبرية، فإن جزءا كبيرا من هذه الديون تم الحصول عليه بفوائد عالية جدا، وهذا ما يشير إلى حاجة الاحتلال لتمويل عملياته العسكرية، على الرغم من الدعم الأمريكي منقطع النظير.
سقوط رواية الاحتلال
ربما يكون سقوط رواية الاحتلال في المنابر العالمية من أكبر خسائره حاليا، فلم تعد ما تقوله أذرع الاحتلال الأمنية والسياسة يجد قبولا على الصعيد الشعبي، ونتابع حجم التضامن مع فلسطين والدفاع عنها، والحديث عن جرائم الاحتلال في غزة، ومع استمرار المجازر، بدأت تظهر أصوات حتى في المستوى السياسي، ولكنها ما زالت خجولة، بينما تستمر المظاهرات الضخمة في العديد من مدن العالم، فقد شهدت العاصمة البريطانية لندن مظاهرات مليونية، وُصفت بأنها الأكبر منذ الحرب على العراق.
وعلى الرغم من انحياز منصات التواصل الاجتماعي الكامل لرواية الاحتلال، وحصارها للمحتوى الداعم لفلسطين، فإن منصة تيك توك على سبيل المثال شهدت تعاطفا كبيرا مع الوسوم التي تتضامن مع فلسطين وغزة، وشكلت مساحة مهمة لنشر الرواية الفلسطينية، بل تجاوزت ذلك لتكون فاتحة ليتعرف الغربيون عامة، والأمريكيون على وجه الخصوص على الإسلام، انطلاقا مما شاهدوه من الصبر والتسليم من أهلنا الصامدين في غزة.
ومع تصاعد التضامن مع فلسطين على أرض الواقع، وفي منصات التواصل الاجتماعي، حذر خبراء لدى الاحتلال من عزلة الكيان على الصعيد الدولي، وقد وصف كاتب في صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أن "إسرائيل تعاني من انفصال أخلاقي عن المجتمع الدولي"، وهو الذي دفع سلطات الاحتلال إلى صرف ملايين الدولارات على الدعاية المؤيدة لإسرائيل في عدد من الدول الأوروبية وخاصة في فرنسا. فبحسب مصادر غربية، اختارت خارجية الاحتلال موقع يوتيوب لنشر نحو 100 مقطع دعائي للترويج لروايتهم عن أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وبلغ ما صرفته الخارجية على هذه الدعاية أكثر من 8 ملايين دولار، واستهدفت على التوالي فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة.
أخيرا، تُشكل المعطيات السابقة جزءا يسيرا مما تعرض له الاحتلال على إثر معركة "طوفان الأقصى"، التي يعدها الكثير من الخبراء نقطة تحول في الإقليم، وأنها النقطة التي ستكثف الأحداث وتسرعها، ومع استمرار هذه المعركة، سيتكشف المزيد مما سيعانيه الاحتلال ومجتمعه، ولا ريب في أن أبلغ وصف لهذه الحالة قوله تعالى في كتابه العزيز: "وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا".