تطرح الولايات المتحدة والإعلام الغربي وجزء كبير من صداه العربي سؤال "ما بعد حماس" في غزة باعتباره سؤال اللحظة الراهنة، متجاهلة أن هذا السؤال تقرره وقائع المعركة، وأن اللحظة الراهنة لم تصل إلى أي إنجاز عسكري صهيوني فضلاً عن أن تصل للسيطرة التامة التي تسمح بطرح هذا السؤال.
الأهم من ذلك كله أن القفز لهذا السؤال يتجاهل كون المقاومة هي من فتحت المعركة، وهي من حققت المباغتة الكاملة وألحقت الهزيمة الأولى بجيش الاحتلال ودمرت فرقة غزة بحجمها البالغ ثمن القوات البرية الصهيونية تقريباً، وبالتالي يمسي من الرغائبية والسذاجة التصرف على أساس أن قلب نتيجة المعركة هو "تحصيل حاصل" فقط لأن الغرب قرر ذلك.
في واقع الأمر فإن إحدى الميزات الاستراتيجية لمعركة طوفان الأقصى هي أنها المعركة الأولى في تاريخ الصراع التي تكون مفتوحة على كل الاحتمالات، والتي لا يكون فيها ميزان القوى حاسماً لصالح القوة المستعمرة لفلسطين إلى الحد الذي يسمح لها بتحديد نتيجة المعركة أو تحديد سقفها، فهي الحرب الأولى منذ مئة عام المفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها كسر القوة العسكرية الأساسية للجيش الصهيوني.
كون المعركة مفتوحة على الاحتمالات يعني أن الواجب التعامل مع سؤال "ما بعد الحرب" من الزاويتين العريضتين، الأولى والأقرب للحصول هي ما بعد الانكسار الصهيوني في غزة، والثانية والأبعد عن التحقق هو ما بعد هزيمة المقاومة، أما ما بعد حماس بالكامل فهو سؤال يعبر عن تضخم الذات الصهيونية والغربية، وواقع الأمر أن استئصال حماس كحركة مقاومة يقع خارج دائرة الاحتمالات الممكنة لأنها جزء أصيل متجذر في شعب فلسطين والأمة بأسرها، وهو ما يخرجه كهدف من نطاق الحرب الحالية أياً كانت نتيجتها.
وإذا ما كانت المقاومة هي الطرف الذي استعد وبادر وباغت وفرض الانتصار الأول، فإن الواجب يلزمنا اليوم بالتفكير بخياراتها هي، وبما كانت تتطلع إليه وهي تتدرب وتستعد لهذا الفعل الصاعق المبادر. لقد كان واضحاً ومنذ الخطاب الأول للقائد العام محمد الضيف أن المقاومة تطلق حرباً مرنة، تعول فيها على الإمكانات، من خلال الافتتاح بالنداء للساحات المختلفة في الضفة الغربية والقدس والداخل المحتل عام 1948 والمقاومة في جنوب لبنان، وإلى عموم الشعوب العربية والإسلامية.
من هنا جاءت تسمية "طوفان الأقصى"، فالطوفان يزيح كل أمامه من الحواجز بحجمه وقوة اندفاعه، وبقدر ما تعول المقاومة أنها شكلت مقدمة الطوفان الكاسحة، فإنها تعول على انضمام الآخرين إلى الفعل ليزداد حجم الطوفان ويكبر، فالمعركة تخاطب جمهور المقاومة وقواها عبر العالم بهذه التسمية فتدعوه إلى أن يكون قطرةً في الطوفان.
وإذا كانت هذه هي فلسفة حرب طوفان الأقصى، فإن محاكاة خيارات المقاومة فيها لا تعود صعبة، بل يمكن حصرها في ثلاث مدياتٍ ممكنة للطوفان:
الأول هو الحد الأدنى: وهو أن تقتصر الحرب على ما فرضته المقاومة باعتبارها مقدمة للطوفان، وهو ما يعني إخلاء غلاف غزة من الحياة وهو ما يحول 650 كيلومتراً من عمق الأرض المحتلة عام 1948 إلى شريطٍ أمني مفرغ من المستوطنين ومن الكتلة العسكرية، وهو ما يقلب موازين الصراع تماماً ويهز قبضة الاحتلال على الجغرافيا التي يراها هو ورعاته الاستعماريين الحد الجغرافي الأدنى للكيان الصهيوني، وهذه النتيجة تحققت منذ الأيام الثلاثة الأولى للحرب ولا يمكن قلبها أو تغييرها إلا بإبادة غزة أو إزالتها من الوجود. الاقتصار على هذا الحد من الإنجاز يتطلب بالضرورة أن يضبط الصهاينة انفعالهم وردهم، وأن يؤجلوا محاولة قلب الوقائع إلى معركة لاحقة يستعدون لها جيداً، وهو ما لم يحصل.
الثاني وهو الحرب البرية: وهو أن تؤدي الضربة الأولى إلى رد فعلٍ صهيوني انتقامي لا يتوقف على القصف الجوي وحده، وأن تذهب إلى عملية برية عميقة في قطاع غزة رغم ما تمر فيه من مأزق، وهو ما يسمح حينها بتحويل غزة إلى مصيدة تكسر التفوق العسكري الصهيوني بضربة قاصمة يصعب ترميم آثارها. ولا يخفى هنا أن المقاومة تعتمد في ذلك أيضاً بعد الله على إمكاناتها، وعلى ما حضّرت له مقاتليها من حرب شوارع وتصدٍّ وثبات ويقين وإيمان وتدريب وخبرة معركة، وهو السيناريو القائم اليوم، والذي كان حجم الوهن الصهيوني أحد دوافعه لأنه مكَّن المقاومة من افتتاح المعركة بضربة مهينة تفوق حتى توقعها، وبالتالي بات الجيش الصهيوني مضطراً للرد البري حتى يستعيد معنى وجوده، وها هو يطور عمليته البرية شيئاً فشيئاً من مناورة إلى حرب كاملة في سلوك أشبه بالمقامرة والإصرار على تكرار التجربة كلما زادت الخسارة.
الثالث هو الحرب البرية متعددة الجبهات: أن يتطور السيناريو الثاني إلى حرب أوسع تضم جبهة شمال فلسطين، وهو ما يضع الجيش الصهيوني أمام اختبار وجودي حقيقي ويؤدي إلى فرض تنازلات جغرافية عليه، بحيث يتعدل شكل الجغرافيا السياسية للاحتلال عن ما استقر عليه عام 1967. وإذا دخل التحرك الشعبي الأردني عبر الحدود إلى المشهد كما حصل عام 2021 في لحظة فارقة، فإنه من الممكن أن يعمق الاهتزاز الصهيوني إلى حد طلب وقف إطلاق النار دون قيدٍ أو شرط، وهو الذي لم تنجح أي حرب في فرضه على الصهاينة منذ بدء الصراع.
الواضح عملياً أن المعركة متجهة حتى الآن نحو احتمالها الثاني، لكن حرب الإبادة للمدنيين من الجو تغطي عليه، ويريد المحتل منها أن يجعل دماء المدنيين عبئاً على المقاومة بما يدفعها لوقف الحرب أو يمحو نصرها الحقيقي الذي فرض في بداية المعركة، لكنها محاولة ستزيد ثمن النصر فقط وستعجز عن محوه، خصوصاً وأن نصراً ثانياً أكبر يجري التأسيس له في الحرب البرية اليوم.
والأساس الموضوعي لهذا التقدير هو منطق الهجوم البري الصهيوني باعتباره هجوماً لاستعادة المبادرة والثقة وصورة الردع، وبالتالي تقبل عليه الوحدات المقاتلة بقلوبٍ وأيدٍ مرتجفة، ولذلك يضع الجيش في مقدمة الهجوم كل قواته الخاصة المدرعة باستثناء جزء من لواء جولاني.
يمتلك الجيش الصهيوني ما بين 500-1700 دبابة صالحة للقتال الفوري، وهذا التباين الكبير يعود للخلاف الكبير بين المصادر حول صلاحية دبابات الميركافا من الجيل الثالث للقتال الفوري دون صيانة وتحضير، وهي التي صُنعت ما بين عامي 1990-2003، ويتراوح عمرها التشغيلي اليوم ما بين 20-33 عاماً، أما أعداد دبابات ميركافا 4 الأحدث فتقدر بنحو 500-600 فقط، ويقتصر وجودها على تشكيلات النخبة تقريباً وهي ثلاثة ألوية تتألف في مجموعها من 15 كتيبة تضم ألوية جفعاتي والحديد والبرق، ووفق المعلومات المنشورة فقد حشد جيش الاحتلال اثنين منها بالكامل على جبهة غزة، واستدعى كتيبتين من لواء البرق المخصص للجبهة الشمالية أساساً.
انطلاقاً من ذلك، فإن قوات النخبة بكتائبها الإثني عشر الأكثر استعداداً للقتال وبما تملك من دبابات ميركافا 4 هي القوة المركزية التي يحاول الجيش الصهيوني احتلال غزة بها، وهي قوات قوامها تقريباً ما بين 6-8 آلاف جندي، مسلحة بنحو 480 آلية مدرعة معظمها من الدبابات، وإذا ما قامر الاحتلال بالوصول إلى انكسارها فإن كل ما وراءها سيصبح أقل قدرة على القتال والصمود والبقاء في الجبهة.
باختصار، بينما يجري الحديث عن "غزة ما بعد حماس"، فإن الوقائع على الأرض تمضي إلى غزة ما بعد انكسار قوات النخبة الصهيونية، وبحسب المنشور من إعلانات كتائب عز الدين القسام فإن مجموع ما دمرته وحدها حتى الآن هو 143 آلية عسكرية على مدى 12 يوماً من المعركة البرية، بمتوسط 12 آلية يومياً، وهو ما يعني أن الاستمرار بهذه الوتيرة من القتال سيعني فناء قوات النخبة خلال 28 يوماً مقبلة من القتال مع احتمال حصوص مفاجآت في الاتجاهين.
إذا ما صحت هذه القراءة فهذا يعني أن الولايات المتحدة ستكون مضطرةً لترشيد السلوك الصهيوني والتدخل لطلب وقف لإطلاق النار خلال أسبوعين من اليوم إن استمرت وتيرة المعارك الحالية، أسبوعان يتبين فيهما عن أي "ما بعد" يتبغي أن نسأل، أسبوعان مهمتنا الأولى خلالهما أن نوقف هذه الإبادة المجنونة لأهل غزة وأطفالها ونسائها، لأن الوضع العسكري بالمقابل هو على النقيض تماماً.