تمر الذكرى الـ23 لاندلاع انتفاضة الأقصى في لحظة سياسية فارقة قد تُشكّل محطة محورية في تاريخ الشعب الفلسطيني، بمقدار ما شكّلته محطة انتفاضة الأقصى ولربما أكثر. بالطبع، لا مجادلة في أهمية انتفاضة الأقصى وما حملته من تطور في الاشتباك والمواجهة وضربات مسّت عمق المنظومة الصهيونية ودفعت الاحتلال للانسحاب مدحوراً من قطاع غزة.
إلا أنّ المخاطر التي تحيط بالقضية الفلسطينية باتت أعظم وأكبر، خصوصاً أمام حكومة فاشية إجرامية لا تتوانى في استغلال أي فرصة لتعزيز ابتلاع الأرض وتوسيع الاستيطان، وتصفية القضية الفلسطينية وضرب كل ثوابتها عبر الاستهداف المباشر لكل الخطوط الحمر للشعب الفلسطيني.
إجرام صهيوني متصاعد
الإجرام الصهيوني وصل لحد اعتبار “خطة الحسم” التي يُنظّر لها وزير المالية الصهيوني وزعيم الصهيونية الدينية “بتسلئيل سموترتيش” الطامح من خلالها إلى إنهاء الصراع العربي – الصهيوني عبر حسم القضية الفلسطينية وإنهاء كل أشكال الكينونة الفلسطينية، وصولاً لاستئناف حملات التهجير للفلسطينيين من أرضهم وابتلاع ما تبقى من الضفة الغربية.
يجد “نتنياهو” وحكومته الفاشية ضالتهم في النظام العربي الرسمي، بداية من السلطة الفلسطينية التي انتقلت من مربع رهانها على حلول “سلمية” عبر خيار المفاوضات، إلى مربع “الاستسلام الكامل” وقبولها بفتات التسهيلات الاقتصادية وضمانات تعزيز السلطة للحفاظ على مصالح المتنفّذين فيها.
تكتمل ضالة “نتنياهو” في هرولة الدول العربية للتطبيع، انطلاقاً من دول “أبراهام” التي منحته إنجازاً غير مسبوق في تاريخه الإجرامي، وصولاً للتطبيع السعودي الذي يتدحرج تدريجياً عبر خطوات بعضها سري وبعضها الآخر علني، استخدمت خلالها السعودية الورقة الفلسطينية كمادة مُحفّزة للتفاوض مع الولايات المتحدة للوصول لصفقة تخدم مصالح نظامها أولاً وأخيرا.
نور المقاومة وأمل الشعب
لكن في وسط كل هذا المشهد المظلم، يشع ويتمدد الضوء آخر النفق، ضوء تمثّله المقاومة المتصاعدة، ويمثّله عشرات الشبان الذي رفعوا البندقية من جديد في الضفة المحتلة، مطلقين الرصاص على رأس أوهام “كي الوعي” وصنع الفلسطيني الجديد الذي دُشّنت المشاريع الدولية بقيادة الجنرال الأمريكي “كيث دايتون” من أجل بنائه على أنقاض انتفاضة الأقصى، واهماً هو ومشغلوه بإمكانية منع تكرار المشهد المنتفض والقضاء على روح الثورة والنضال في الشباب الفلسطيني.
مقاومة نجحت في تحرير قطاع غزة الذي طردت الاحتلال منه تحت ضربات انتفاضة الأقصى، ودفعت رأس الإرهاب الصهيوني “أرئيل شارون” إلى تبني خطة “فك الارتباط”. حوّلت المقاومة قطاع غزة إلى بقعة آمنة نسبياً للعمل المقاوم، مما أنتج بنية تحتية استراتيجية سمحت بمنظومات التصنيع والتطوير والتدريب، لتُشكّل رأس حربة في الاشتباك مع الاحتلال، وقاعدة ثابتة لدعم الفعل في المقاوم في الأراضي المحتلة عامة، ومهدداً استراتيجياً جديداً يؤرق الاحتلال.
سلاح الاغتيالات
ما أشبه اليوم بالأمس، فالاحتلال الذي ظنّ أنّ بإمكانه أن يقضي على انتفاضة الأقصى عبر تصعيد الاغتيال ضد قادة العمل الوطني المقاوم، قادة الانتفاضة، قادة تاريخيين شكّلوا ملامح لوحة النضال الفلسطيني لسنوات طوال، واهماً أنّ هذه السياسة ستكون سبيلاً لوأد الانتفاضة في مهدها.
لا يبحث الاحتلال من خلال الاغتيالات على وقف التأثير المباشر للقادة المستهدفين، ولا إجهاض فعلهم ودورهم الحزبي والوطني فقط، بل يبحث عن خلق حالة من الردع وتحويل عملية الاغتيال إلى فزاعة تُسيطر على عقول ونفوس ومعنويات من سيتبوأ الموقع القيادي خلفاً لمن سبقه من الشهداء، فالاغتيال بقدر ما يستهدف الشخصية القيادية، إلا أنّه موجه أيضاً لاغتيال نهج وفكرة، ولردع مسيرة كفاح.
على العكس تماماً تحولت دماء القادة إلى وقود حمل الانتفاضة إلى مراحل جديدة من الفعل النوعي والإصرار الثوري على استعادة حقوق الشعب الفلسطيني المهدورة، ومغادرة مربع “أوسلو” والرهانات الفاشلة، وتحوّل كل شهيد من قادة الشعب الفلسطيني إلى عنوان لكتائب ومجموعات وشعار على بندقية مقاتل، واسم على صاروخ وعبوة، ليكونوا هم النار التي لاحقت الجنود والمستوطنين الصهاينة.
اليوم، يعود الاحتلال لذات السياسة، يعيد الاغتيالات إلى طاولة المُقرر الصهيوني، بعد أن وقف عاجزاً لعامين عن فرملة الاندفاعة الثورية المتصاعدة في الضفة المحتلة، وتحطم “كاسر الأمواج”، وكُسرت تكتيكات “جز العشب” أمام عزيمة المقاومين الذين انطلقوا من جنين ليكونوا اليوم مجموعات تضرب في كل الضفة الغربية من جنوبه لشماله.
يبحث الاحتلال عن مغادرة عجزه، وعن ترميم ردع مهدور أمام منظومة مقاومة باتت أصلب وأقوى وأكثر تكاملاً وتحظى بعمق من محور مقاوم نجح في خلق طوق صاروخي وناري يحيط بالاحتلال، حتى بات يخشى من سيناريو الهجوم عليه من “جبهات متعددة” وبشكل متزامن، في وقت يئن جيشه تحت وطأة الاستنزاف على الجبهات الثلاث جنوب وشمال فلسطين المحتلة، وفي قلبها بالضفة الغربية، إلى جانب الانعكاس المباشر للأزمة الداخلية بالكيان على فعالية وقدرة جيشه المجرم وقوات الاحتياط فيه.
بالرغم من العديد من الحسابات المُعقدة، إلا أنّ الواضح أنّ الاحتلال عاقد العزم على تنفيذ ضربة أو ضربات غادرة تستهدف قيادة المقاومة، وتعيد سياسة الاغتيالات (التي لم تتوقف بشكل كامل بالمناسبة) إلى الواجهة من جديد، كخيار يُعوّل أنّه سيكون ناجعاً في مواجهة الفعل المقاوم المتصاعد، وفي ردع قيادة المقاومة عن الاستمرار في الاستثمار في تصعيد المواجهة بالضفة المحتلة.
الردع بالردع والاغتيال بالاغتيال
بدأ العدو موجة اغتيالاته لقادة المقاومة في انتفاضة الأقصى باستهداف الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين “أبو علي مصطفى“، إذ استهدفه وهو في مكتبه وعلى رأس عمله بصاروخين من الطائرات المروحية، حوّلته إلى أشلاء، وحوّلت كل الشوارع الفلسطينية إلى براكين من غضب ونار.
اختار الاحتلال أبو علي مصطفى لدوره المحوري أولاً في إشعال الانتفاضة، ولوزنه الاعتباري، ليس فقط باعتباره أميناً عاماً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بل كونه من أبرز وجوه حركة النضال الوطني الفلسطيني منذ انطلاق الثورة المعاصرة، بداية من المنافي، وصولاً لعودته إلى الضفة الغربية ودوره المباشر في تثوير وتجييش شعبنا الفلسطيني للانخراط بالانتفاضة.
هدف الاحتلال إلى تحييد الجبهة الشعبية، بل الحركة الوطنية كلها عن الانخراط الفاعل في تصعيد الانتفاضة، وظنّ أنّه باغتيال أبو علي مصطفى فقد أجهز على فعالية مكون أساسي من مكونات الانتفاضة والكفاح المسلح، خصوصاً بعد أن كانت الجبهة الشعبية من طلائع المبادرين إلى رفع وتيرة الاشتباك وإدخال تقنيات جديدة في المواجهة مثل السيارات والحقائب المفخخة في العمق الصهيوني وتفجيرها عن بُعد.
كان رد الجبهة الشعبية على الاغتيال حدثاً مفصلياً في وتيرة الانتفاضة، ودرساً لا يجب أن نتجاوزه في مواجهة سياسة الاغتيال الصهيونية، إذ كان الخطاب الأول لأمينها العام المُنتخب أحمد سعدات واضحاً لا لبس فيه، “لن نكون نداً للشهداء، لن نستحق احترام شعبنا.. إن لم يكن شعارنا العين بالعين، السن بالسن، الرأس بالرأس“.
لم يكن خطاباً عرمرمياً تنتهي قيمة كلماته بانتهاء مهرجان التأبين، بل كان توجيهاً واضحاً للخلايا الضاربة للجبهة الشعبية، أنّ البوصلة واضحة ومحددة، لن يكون الرد على الاغتيال إلا بالاغتيال، واستهداف قادتنا سيقابله استهداف قادة الاحتلال ووزرائه، وهو ما كان.
بعد ما يقارب الـ40 يوماً على اغتيال أبو علي مصطفى، نجحت مجموعة خاصة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، باغتيال الوزير المتطرف “رحبعام زئيفي” أحد رواد نظرية “الترانسفير” الصهيونية، ومن أبرز وجوه الإجرام الصهيوني.
بقدر ما مثّلت عملية اغتيال “زئيفي” رداً نوعياً في جرأته وقدرة منفّذيه على الانسحاب بأمان بعد إنجاز عمليتهم، إضافة لكونها نموذجاً مهماً في التخطيط والسرية وإتقان التنفيذ، إلا أنّها مثّلت أيضاً ضربة استراتيجية لنظريات الأمن الصهيوني، والرصاصات التي أُطلقت على رأس زئيفي، أُطلقت أيضاً على قلب فكرة الردع بالاغتيالات التي طمحت المستويات الأمنية والعسكرية الصهيونية في نجاحها.
لا يمكن أن ندّعي أنّ الاحتلال لا يستطيع أن ينفّذ اغتيالاته متى أراد ووقتما أراد ولمن يريد من قادة المقاومة، وندرك تماماً أنّه يمتلك كل الموارد والتقنيات والأسلحة اللازمة لتنفيذ أنجح عمليات الاغتيال، لكن ما يجعل حساباته معقدة في اتخاذ القرار بالاغتيال من عدمه، هي حسابات رد المقاومة وثمن عملية الاغتيال.
وعطفاً على ما سبق، فإنّ المقاومة أمام مهمة رئيسية في مواجهة خيار الاحتلال بتفعيل سياسات الاغتيالات بحقّ قادتها، وتتمثّل هذه المهمة في خلق الردع اللازم عبر رفع مستوى الثمن الذي يجب أن يدفعه الاحتلال مقابل كل عملية اغتيال لأي قائد فلسطيني في أي مكان في العالم، ومن ذات المنطلق أيضاً لا يجب أن تُشكّل عملية اغتيال “زئيفي” رداً على استشهاد أبو علي مصطفى، حدثاً منفرداً في تاريخ الشعب الفلسطيني، بل يجب أن تتحوّل إلى نهج في مواجهة آلة القتل الصهيونية، وليكن الرأس بالرأس، والاغتيال بالاغتيال، ولنعطِ بعداً جديداً للتعقيدات على حسابات الاحتلال الأمنية والعسكرية.