كانت معادلة بقيت راسخة في التاريخ، تحوّل من نزلوا عن الجبل وتركوا ظهر الجيش مكشوفًا لعدوّهم من أجل اللحاق بالغنائم إلى رمز للهزيمة، فإما الثبات في المعركة أو الانفضاض عنها حرصًا على الغنائم وبالتالي وقوع الهزيمة، ولم تتوقّف هذه المعادلة على معركة من المعارك بل بقيت شاهدة فحيث وقعت هزيمة لا بدّ وأنّ هناك فريق ذهب مبكّرًا إلى الغنائم تاركًا المعركة، فالمعادلة من ثلاثة أطراف: صبر وعزيمة وغنائم فإذا صار الأمر إلى الغنائم نفذ الصبر ووهنت العزيمة فوقعت لا محالة الهزيمة.
ويأتي الأعداء دومًا للاستفراد بفريق يعرف مسبقًا كم هي حسابات الغنائم معشعشة في رأسه، فيقدّم له من الوعود والإغراء ما يسيّل لعابه ويزيغ بصره ويثير طمعه، فيقرّر هذا النزول عن الجبل فتكون الهزيمة ساحقة وتقع علينا نكبة جديدة ونبدأ مرحلة جديدة من الألم والمعاناة ودفع أثمان باهظة من عمر قضيتنا وتضحيات شعبنا.
ومن المعروف بديهيًا أن القضية الفلسطينية ترتكز على حقوق ثابتة لا فرار منها، فالقدس وحق العودة للاجئين مثلًا هل هناك من هو قادر على أن يتنازل عنها؟ وهنا نأتي لمن يساومون على التطبيع من دول عربية وممن يريدون خدمة القضيّة الفلسطينية بعدم الخروج من المولد بلا حمّص، أو من يخافون من أن تتجاوزهم السياسة الإقليمية والدولية حالة عدم ركوب موجتها، ما الذي ستحقّقه سوى أشياء لا تخرج أبدًا عن دائرة الغنائم، وهو ما يسمّى إسرائيليًا تحسين الأوضاع المعيشية للسكان، أو قل الحلّ الاقتصادي في حين أن مرتكزات القضيّة الفلسطينية تصبح في خبر كان، أو قل ستصفّى القضية الفلسطينية على أعتاب المطبعين ومن هم جاهزون لإلقاء الفتات. لا أعتقد أن فلسطينيًا ما زال متمسّكًا بقضيّته على استعداد للنزول إلى هذا الواد السحيق بحثًا عن الغنائم أبدًا.
لا يمكن لنا بعد ما آلت إليه أمور اتفاقية أوسلو أن نعود على ذات الفكرة، تأجيل المهم والانشغال في الغنائم التي لا تعدو أن تزيد عن فتات موائدهم، في حين يتمدد الإسرائيليون في استيطانهم وتهويدهم للقدس وفرض أوهامهم ليسمّوها لنا حقائق على الأرض لم تفرض إلا بغطرسة القوّة وعربدة السلاح.
الفلسطيني بعد هذه التجارب المريرة هو أوعى الناس بهذه الطبيعة النكدة من البشر، هو الأغزر خبرة والأوسع تجربة، لذلك لن تنطلي عليه الأمور ومن المفترض أن يبصر ما لا يبصره الواهمون من الأقطار العربية ذات القابلية للتطبيع، لذلك فإن عليه أن يبصّر غيره بهذه البصيرة التي لم يصل إليها إلا بعد أن اكتوى بنارها.
هناك من يعد اليوم مجرّد العودة إلى طاولة التفاوض هو إنجاز عظيم، وهناك من عنده استعداد المقايضة والتراجع بحجة إنقاذ ما يمكن إنقاذه وهو لا يعلم كم سيخسر على صعيد القضية وعلى صعيد أن يكون عرّابًا للتطبيع أو على الأقلّ أن يساهم في فتح الباب على مصراعيه بحجة أن الأقرب قد وافق ورضي عن هذا التطبيع.
لذلك فإنّ الفلسطيني هو الرقم الصعب في المعادلة وهو الذي إن شاء فتح الباب أو أغلقه، هو الذي يملك أوراق المنطقة فليستمسك بالجبل وليحذر الغنائم حذره للموت وضياع القضيّة، ما زال الجبل موجودًا وما زال الرماة على الجبل.