شبكة قدس الإخبارية

بلد المليون فنجان

عطوة
مصطفى بدر

 

تحولنا في مئة عامٍ أو أقلّ من شعبٍ يأكل مما يزرع ويلبس مما يصنع إلى مستهلكين جائعين ومستوردين بارعين، ولم نستورد الملابس والطعام والأدوات المنزليّة فقط، بل استوردنا أيضاً الطِباع والثقافة والسلوك. وكحال الكثير من التُجّار الذين لم يُحضروا لنا سوى ما قلّ ثمنه وانعدمت جودته من بضاعة، فإن كُثُراً منّا لم يستطيبوا التأثُّر بشيءٍ سوى ما تدنّت فطرته وانعدمت أخلاقه مما يتجرّعونه في الأفلام والمسلسلات ومواقع التواصل الاجتماعيّ.

فتمتزج ثقافة العنف والسطوة وجنون العظمة والانتقام من المجرمين ورجال العصابات والقتلة على شاشات التلفزيون، مع ثقافة التفاهة والجشع والانحطاط والانحلال التي تنضح بها مواقع التواصل الاجتماعي، وتصبّ في دلوٍ فارغٍ من كل شيءٍ تقريباً سوى بضع قشورٍ بالية من عصبيّةٍ خاوية وجاهليّةٍ فانية، فتصوغ هويّةً عقليّةً من عصور ما قبل التاريخ للإنسان العربيّ الحديث.

وفي زمنٍ أصبح فيه القانون حِبراً على ورقٍ أصفر، والفسَاد بجواز سفرٍ أحمر، والاحتلال يستوطن على ضوءٍ أخضر، يغيب الدين والتسامح والنخوة ومكارم الأخلاق أمام عَوَج الفكر والانغلاق، ويتلاشى دور الكِتاب والقَلَم أمام اليدّ والعصا والسكّين والقَدَم، ويصبح عُمر الإنسان مجرّد رقمٍ ليس إلّا، رقم هويّة، رقمٌ ضريبيّ، رقم هاتف، رقمٌ في إحصاءات ضحايا القتل، رقمٌ على ورقة عطوةٍ عشائريّة لِقِيمة ديَّته.

وأحياناً تكون الأرقام كثيرة، أو عائلة الضحيّة ضعيفةً وصغيرة، فتتلاشى الأرقام، وتنتهي بفنجان قهوة. وكما تغيّرت قهوتنا التي نستوردها وصارت موكا ولاتيه وإسبريسو، حتى كادت ألا تكون قهوة، فإن الرجال كادوا ألا يعودوا رجالاً.