الخليل - قدس الإخبارية: "هؤلاء من جاؤوا ليعتقلوني، والله سيندحرون بإذن الله عن هذه الأرض المباركة، لأننا أصحاب حق وهم أصحاب باطل، وما بني على حق سينتصر، وما بني على باطل ينهزم"، كالجبل شامخًا وقف محمد الشنتير أثناء محاصرة بيته في منطقة "خلة مناع" جنوبي الخليل في 24 آب/ أغسطس الماضي واعتقاله، وانحنى لتقبيل يدي وقدمي أمه في "عناق" الوداع.
خرجت تلك الكلمات من حنجرة ممتلئة بحب فلسطين وبعيون تنظر إلى الأمل بحتمية "النصر" فكتب عهدًا مع الحرية ومع خيوط الشمس التي سيعانقها "قريبًا" كما أخبر والدته رغم حبال "الأحكام العالية" التي قد تلتف على سنوات من عمره داخل الأسر تذبل زهرات شبابه، فودع بتلك الكلمات أمه، عندما طلب منها ومن شقيقاته التكبير وعدم البكاء، فتحولت تلك اللحظة التي ذرفن فيها الدموع إلى أمل وتحدٍّ صدحت حناجرهن بصوت التكبيرات.
كان المشهد السابق نهاية حدث بدأ بمحاصرة البيت بعدد كبير من آليات وجنود جيش الاحتلال فجر 24 آب/ أغسطس، أطلقوا خلاله النار لمدة نصف ساعة في الهواء، فأرعبوا النساء والأطفال، واحتجزوا أفراد العائلة قبل أن يعتقلوا محمد وابن عمه صقر بتهمة تنفيذ عملية عملية إطلاق النار التي وقعت في 21 أغسطس/ آب الماضي، قرب مستوطنة "كريات أربع" في الخليل جنوبي الضفة الغربية المحتلة، وأدت لمقتل مستوطنة وإصابة آخر بجراح خطرة.
قوات كبيرة
"عندما حاصروا البيت، استمروا بإطلاق النار لمدة نصف ساعة، ساد الخوف في صفوف الأطفال، اعتقدت أنهم سيعتقلون أحد أبناء الجيران ولم أتوقع أن يكون المعتقل ابني محمد الذي أمضى آخر أيامه بشكل طبيعي وعادي، ومارس حياته العادية حتى أنه كان يذهب إلى عمله" بنبرة ممزوجة بالأمل يروي والده لـ "قدس" آخر اللحظات.
منذ اعتقاله لم تزر العائلة ابنها، لكنهم قبل ثلاثة أيام استيقظوا على مفاجأة "جميلة" غمرت قلب الأب قادمة من السجن: "تحدث معنا لعدة دقائق، وأخبرنا أنه بخير وطمأننا عليه، كان الاتصال مفاجئا بلا موعد، فسررت وأخبرني بموعد جلسة المحاكمة كي نراه فيها".
درس الأسير الشنتير تخصص هندسة الديكور وعمل في هذا المجال أكثر من سبع سنوات، وفق والده، وفي الفترة الأخيرة انتقل للعمل في "شحوم السيارات"، وهو أب لأربعة أطفال هم: يارا (11 عامًا) وسارة (10 أعوام) وعدي (6 أعوام) ويافا (عامان).
يرقب الأطفال المصير المجهول الذي ينتظر والدهم، يسألون جدهم عن موعد عودته إن كان بعد أيام أو شهر أو سنة، فقبل أيام اشترى لهم ملابس المدرسة استعدادًا للعالم الدراسي الجديد، لأول مرة سيغيب محمد عن توصيلهم إلى صفوفهم، لم يجد الجد أجوبة لأحفاده لأنه لا يعرف ما ستؤول إليه الأمور.
بنظرات تحاصرها الدموع غادرت يارا وأشقاؤها إلى المدرسة بلا والدهم الذي تغيبه السجون، وغيبته عن هذه اللحظات، تغلف عبارات الشوق صوت والده: "نقوم بإرسالهم ومحاولة تعويض دور الأب برافقتهم للمدرسة".
لم يكن صقر ومحمد مجرد أبناء عم يسكنان بمنزلين قريبين من بعضهما البعض بل كانا أيضًا أبناء خالات، حجم القرب العائلي ساهم في توطيد العلاقة العائلية بينهما كأنهما شقيقان، وأصبحا الآن رفيقا السجن يتشاركان في الهم ذاته وفي المصير المنتظر، اعتقلهما الاحتلال واعتقل "سرهما معهما" حسب تعبيرات والده.
حمل الأسيران اللذان ينتظرهم حكم "صعب" بحكم التهمة الموجهة إليهما من الاحتلال بتنفيذ عملية مقاومة أسفرت عن مقتل مستوطنة، فلسطين في قلوبهما، وحب الأقصى، لم تشغلهم الدنيا عن التفاعل مع قضاياهم الوطنية، كان هذا الحب أشبه بتفاعل صامت، انتهى بضجيج دوى صداها في عموم أرجاء فلسطين ودولة الاحتلال على وقع صوت الرصاص التي هزَّت مستوطنات محافظات الخليل.
وقف الشنتير في دهشة من عملية اعتقال نجله، فمنذ تنفيذ عملية الخليل التي يتهم الاحتلال نجله بتنفيذها كان يمارس حياته الطبيعية، بالذهاب من البيت إلى العمل حتى آخر لحظاته، موكلا أمره للقدر بصوت اختنق بالدموع: "قدر الله وما شاء فعل، وما هو مكتوب سيحدث، أسأل الله أن يلطف فينا، نحن نريد أن نعيش بطمأنينة واستقرار".
قبل عشرة أيام من الاعتقال لم يفارق الأسير والده بسبب وعكة صحية ألمت به "ظل يجلس تحت قدمي يقبلهما، وخلال إجرائي عملية القسطرة القلبية لم يفارقني لدرجة أنه كان يريد الدخول معي في غرفة الجراحة" يستذكر.
شقيقات الهم ذاته
تجلس والدتا محمد وصقر في المنزل، تتشارك الشقيقتان "السلفتان" الهم ذاته، كل منهن تواسي قلب الأخرى، تتكئان على عكاز الصبر، ولحظة حديثنا مع العائلة كانتا معًا في جلسة مسائية عائلية، حضرها أفراد الأسرة وغاب عنها الأسيران.
منذ اعتقاله في 24 آب/ أغسطس الماضي، افتقدت والدة محمد طلته وإطلالة شمس ابتسامته الصباحية عليها، حينما كان يأتي ويقبل يديها ورأسها، تقول لـ "قدس الإخبارية" بنبرات يسكنها الشوق ويغلفها الحب: "محمد بار بوالديه كما باقي أخوته، يوميًا كان يأتي لزيارة. قلبه طيب وحنون كريم كل ما احتاجه يلبيه، ودائما يتصل بي ليسألني إن كنت بحاجة لأي غرض أو شيء وهو بالخارج فكان همه أن ينال رضاي".
كما حال والده، صدم الاتصال القادم من الأسر والدته أيضًا فتصفها بأنها "فرحة طمأنت قلبي".
أما والدة "صقر" التي شاركتنا الحديث، فلا زالت نيران القلق تكوي قلبها لأنها لم تتلقَ اتصالاً هاتفيًا من نجلها يبرد مخاوفها قليلاً، فسبقته دموعها في مستهل حديثها مع "شبكة قدس".
في آخر يوم له قبل الاعتقال عاد نجلها من عمله (سباكة) مع ساعات المغرب، طلب من أمه أن تعد له أكلة "المقلوبة" التي يفضلها، وتسامر الحديث معها بعد ذلك بشكل طبيعي، لتفزع مع ساعات الفجر بصوت حركة مركبة عسكرية تلاها أصوات إطلاق نار دوت في فضاء المكان، "صدمت لم أتوقع أن يتم اعتقال نجلي" قالت.
قبلت الشنتير نجلها لحظة اعتقاله، وتتمنى أن "يتم الإفراج عنه، كنت أستعد لزواجه حتى قبل خمسة أيام من اعتقاله جلست معه وقلت له: "البيت أصبح كبيرًا علي ولا أستطيع ترتيبه بشكل مستمر، أريد قسمته بيني وبينك حتى أزوجك في الشتاء"، فاكتفى بالقول: "وكليها لله يما" ولم أكن أعرف أنه سيتم اعتقاله".
أبقت الشنتير فرحة نجلها مؤجلة إلى حين الإفراج عنه، ولا تعلم متى سيكون ذلك الموعد، لكنها تتمنى أن تكون حاضرة لتستقبله مرة أخرى وتعانقه خارج الأسر وتفرح به وتزوجه وترى أحفاده، حتى يمتلئ البيت الذي أصبح فارغًا بحضوره وصوته.