جنين - خاص قدس الإخبارية: تغيرت ملامحها عندما وقعت عيناها على صورة إعدام جنود الاحتلال لشباب مضرجين بدمائهم لم تتضح لها - هويتهم بعد-  داخل سيارة بالقرب من دوار عرابة في جنين مساء 6 آب/ أغسطس الماضي وهي تتصفح تطبيق "تليجرام"، فتسعرت نبرات الغضب الذي تدفق من قلبها تشارك زوجها: "الله أكبر أيش هالحقد. ليش بغتالوا بهاي الطريقة!؟".

لم تجد والدة الشاب نايف أبو صويص (26 عامًا) إجابة على سؤالها، إلا عندما ارتج هاتفها، بدأت صديقتها المتصلة بسؤالها: "وين ابنك نايف!؟ - بالمخيم، طيب في ايش صاير معه؟ - لالا، احكي إذا في اشي- لا ما في اشي"، كلها أصوات حواراتٍ، بين الأم وصديقتها انتهت باعتراف مؤلم لم تستطع  الهروب من الإجابة عليه: "ابنك استشهد".

عادت أبو صويص لإمساك الهاتف تغط في موجة بكاء تغطي ملامحها، لأول مرة كان الهاتف أثقل من أي مرة أمسكته بيدها، للتأكد من الخبر الذي تمنت أن يكون "مجرد تشابه أسماء"، قبل أن تحكم الصدمة السيطرة على ملامحها بينما تطلُ من عينها دموع حارة، وهي تقرأ اسم نجلها "نايف" يُنعى شهيدًا، برفقة الشهيد لؤي طروش "أبو ناعسة" وكلاهما من مخيم جنين، والفتى براء القرم (16 عاما) من قرية "جلقموس" قضاء جنين، اغتالتهم قوات خاصة من جيش الاحتلال في كمين أعدته لهم.

اجتياح المخيم

في الثالث من يوليو/ تموز الماضي وخلال اجتياح الاحتلال لمخيم جنين، تفاجأت "أبو صويص" باقتحام قوات كبيرة راجلة من جيش الاحتلال لبيتها الساعة الرابعة فجرًا، بعدما لم تتمكن آلياته من تخطي المنطقة الوعرة والوصول للبيت، تبدأ حديثها لـ "قدس" بالحديث عن تفاصيلها قائلة، يجتاح صوتها سيل ألم فقد لم يجف منذ شهر: " عندما جاؤوا كنا نتابع تطورات الاقتحام ولم ننم نتيجة الاشتباكات والانفجارات. فتشوا البيت، واحتجزوا والده، كانت أعدادهم كبيرة وهددونا بتصفية "نايف".

اشتدت مطاردة الاحتلال لنجلها في آخر شهر قبل اغتياله، لم يكن يحمل هاتفًا ليمنع الاحتلال من تعقبه، وكان بين الفينة والأخرى يأتي للبيت، أو تذهب له والدته للمخيم وتبحث عنه لتقابله في كل مرة كان يغلبها الشوق.

بكلمات مليئة بحب يسكن قلبها تصفه بأنه "شخصية محبوبة من الجميع، له علاقات اجتماعية واسعة مع اصدقاء له داخل المخيم وخارجه، "أعتبره أسدًا، تمرد على الاحتلال، كان رجلاً بكل معنى الكلمة، وهو شخصية مثالية يحب أخوته ووالده ويعاملهم كأنهم أصدقاء له" تقول أمه.

شق صوته القادم من بعيد ذاكرة أمه محركًا بعض المشاهد "كان حنونًا فإذا رآني مريضة لا يفارقني ويظل بجانبي، حتى أتماثل للشفاء، وكان ماهرًا في إعداد الطعام والحلوى ويساعدني في إعداد بعض الأكلات، وعندما يراني متعبة يقوم بمساعدتي بغسل الأطباق (الجلي)".

ابتسم صوتها وهي تستحضر واحدًا من مواقفه في إعداد الطعام "أذكر أنه في يوم استيقظت على صوت قادم من المطبخ الساعة الثانية فجرًا، فوجدته يعد أكلة "المقلوبة"، فسألته بتعجب: "في حدا بطبخ الساعة 2 بالليل؟" فابتسم ودعاني للجلوس معه. تركته وخلدتُ للنوم، وكان يحب إطعام الجميع، ويعد الطعام لأصدقائه وكذلك الحلوى".

من بين زقاق المخيم كبر الطفل الذي كان يقول لوالدته بنبرات خوف وارتعاد "الدبابة لاحقاني" في سنوات عمره الأولى لحظة اجتياح المخيم عام 2002، أصبح هو من يلاحق قوات الاحتلال ويتصدى لهم برفقة رفاق دربه امتاز بالشجاعة التي قهرت خوف الطفولة، لكنه أبقى عمله المقاوم بعيدًا عن حديثه مع والدته وعائلته.

عمل الشاب المكافح بعدة مجالات منها تربية الدواجن وفي ورش الحدادة وهي مهنة أفراد عائلته، إضافة لعمله في الألمونيوم، ذو ملامح قمحية وابتسامة لا تفارق وجهه، وبندقية كانت سنده في التصدي للاقتحامات.

عاشت والدة لؤي أبو ناعسة نفس التفاصيل المؤلمة التي عاشتها والدة أبو صويص، فمرت على نفس الخبر لحظة ارتكاب الجريمة ولم تتنبه لأسماء الشهداء.

بعد لحظات جاء نجلها ليضع خبرًا لم يستطع قلبها تحملها حينما قال لها "اقري الفاتحة على روح أخوي لؤي" لم تكن مجرد كلمات، بل صاعقة شقت قلبها، وأنزلت دموعًا حارقة جرت على وجنتيها ولسعت قلبها.

بعينين محمرتين وقلب مقهور روت والدته في مقابلة مرئية آخر تفاصيلها مع نجلها، فتقول "كنت أسأله إن كان هناك اجتياحا قريبا للمخيم، فيقول لي إنه "مستعد وجاهز للتصدي لهم". خرج من البيت وبعد خروجه بنصف ساعة جاء خبر استشهاده. ابني محبوب ويحب خدمة الآخرين".

اعتقل الاحتلال أبو ناعسة لمدة عام ونصف، وتحرر بشهر مارس/ آذار الماضي، وعاد لهوايته المفضلة في حملة البندقية ومقارعة الاحتلال ولم يمنعه الاعتقال من مواصلة طريق عبده شهداء سبقوه، قبل يومين من استشهاده مازحه أحد أصدقائه بمقطع فيديو عن موعد استشهاده فقال له بابتسامة ونبرة ممتلئة بالإقبال "بس أقتل عشر مستوطنين ساعتها بموت".

لقاء "الصدفة"

أما الفتى براء القرم (16 عامًا) فلم يكن مقاومًا، ولم يكن خروجه بالسيارة مع "نايف ولؤي" بموعد مرتب بينهم، إذا استقل سيارتهم عندما صادفهم داخل مركز مدينة جنين أثناء بحثه عن عمل، وعندما خاب أمله قرر الذهاب لزيارة شقيقته التي تسكن في نفس الطريق الذي سلكه المقاومان اللذان تربطهما علاقة "ود" مع الفتى الصغير، عندما كان يعمل في صالون حلاقة في داخل المخيم. وفق شقيقه لؤي القرم.

رغم أن لؤي يعمل بالداخل المحتل ولا يرى شقيقه الفتى الأصغر إلا قليلاً مساء كل يوم، إلا أنه حصل على إجازة يوم 6 أغسطس من عمله، ومكث طوال اليوم مع شقيقه، يستهل حديثه مع "قدس" بالعودة لتفاصيلها قائلاً: "خرجنا منذ الصباح، ونزلنا على السوق حتى الثانية مساءً، وعدنا للبيت تناول الغداء وكان سعيدًا حتى أنني لم أره يأكل بهذا القدر من قبل على غير عادته، ثم اغتسل واستبدل ملابسه وارتدى قميصا جديدًا ثم نزل على جنين للبحث عن عمل كما أخبرنا".

حدثت عملية الاغتيال عند الساعة الخامسة ونحو 20 دقيقة، قابل القرم الخبر الذي مرَّ عليه بالدعاء لعائلات الشهداء، ولم يبحث أو يركز في الأسماء أو حتى يشك بأن يكون شقيقه بنيهم، يعلل "بالعادة أخي يخرج بهذا الوقت مع أولاد أخوتي الكبار وهم من جيله للجلوس في أحد المقاهي وتناول العشاء أو التنزه والسباحة".

الساعة الثامنة مساءً، تلقت العائلة اتصالا من "الارتباط الفلسطيني" وكان هناك خطأ في اسم العائلة، يتوقف القرم بتنهيدة نبشت جرح الفقد مرة أخرى "عشنا لحظات صعبة، بالعادة لا يخرج مع الشباب المقاومين الذين تجمعه فيهم علاقة صداقة فقط كونه عمل حلاقًا. قمنا بالاتصال به عدة مرات فلم يرد، حتى تأكد اسمه بعد لحظات صعبة عشناها مضت في توتر وقلق نزل الخبر كالصاعقة على قلوبنا".

عن سبب تواجد شقيقه مع نايف ولؤي، ينقل عن شهود عيان "أنهما عرضا عليه الركوب معهم عندما صادفهم بمدينة جنين" ما يعزز هذه الرواية لديه، أن شقيقه الفتى أخبر أمه أنه إن لم يجد عملاً سيزور إحدى شقيقاته تسكن في منطقة قريبة من مكان الاغتيال.

براء الفتى ذو الوجه المدور، والشعر النائم، حلم أن يجد عملاً ويؤسس مشروعا في مجال كماليات السيارات، ولم يبتعد الحلم وفق شقيقه عن نطاق شراء سيارة جميلة والزواج بعد عدة سنوات، كان يحب الرحلات تأسره أجواء الطبيعة والعيش تلك التفاصيل مع أصدقائه.

يعلق في ذاكرة شقيقه آخر موقف جمعهما قبل يوم من استشهاده "جاءني وطلب مبلغا ماليًا أكبر مما اعتاد أن يطلبه مني، فأعطيته ما طلب، وأخبرني أنه سيذهب للسباحة مع أصدقائه والخروج برحلة ترفيهية، وخرج وعاد سعيدًا.

يعتقد القرم أن عملية اغتيال شقيقه والمقاومين أبو ناعسة وأبو صويص كانت استدراجا من مخابرات الاحتلال لهم، بانتحال صفة شخصيات مقاومة بهدف دعم المقاومين، فوقعوا في كمين محكم من القوات الخاصة التي اغتالتهم.

لا زال أبطال جنين يخطون بيان رفضهم للتعايش مع الاحتلال ووجود المستوطنين بالضفة الغربية بالرصاص الذي توقع عليه بنادقهم ورصاصاتهم، ينطلقون لساحات المعارك والنزال ويطاردون الاحتلال في كل مكان، يؤكدون أنه "لا مكان له على أي بقعة من فلسطين" يسيرون على خطى المقاومين القدامى، بعدما ورثوا البنادق وأعادوا لها سيرتها الأولى بمقارعة الاحتلال