شبكة قدس الإخبارية

قراءة في الموقف السعودي من التطبيع مع الاحتلال

1be9ac7de400dea9cf00eef32c036dc5
أحمد الطناني

 

حرّك مقال الكاتب الأمريكي توماس فريدمان في صحيفة “نيويورك تايمز” الرأي العام حول جدية الإدارة الأمريكية في الضغط للوصول إلى اتفاق تطبيع بين السعودية وكيان الاحتلال، يشمل اتفاق أمريكي واسع مع السعودية حول العديد من العناوين أبرزها: العلاقة السعودية مع الصين، أسعار النفط العالمي وترطيب العلاقة الجافة منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض، إلى جانب التطبيع مع الاحتلال.

بالطبع، فإنّ الحديث عن جهود مستمرة للتطبيع بين السعودية وكيان الاحتلال هو حديث قديم جديد، بدأ يطفو على السطح بقوة إبان اتفاقيات التطبيع لبعض الدول العربية التي حملت اسم “اتفاقيات أبراهام” في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، حيث كان واضح أنّ الموقف السعودي داعم لهذه الاتفاقيات دون الانخراط المباشر فيها.

قدّمت السعودية على مدار السنوات الماضية مجموعة من الإشارات الإيجابية تجاه كيان الاحتلال ما دون الوصول لاتفاق تطبيع كامل، إذ وصف مسؤول “إسرائيلي” العلاقة ما بين دولته والسعودية بـ”نصف تطبيع” حيث سمحت السعودية للطيران “الإسرائيلي” بالمرور من الأجواء السعودية، وسمحت بمشاركة وفود “إسرائيلية” في عدد من المحافل الدولية التي استضافتها المملكة، وتغاضت عن زيارة “أنور عشقي” المستشار السابق للحكومة السعودية الذي يرأس حالياً مركز الشرق الأوسط للدراسات الإستراتيجية والقانونية عام 2016 إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة واللقاء بمسؤولين “إسرائيليين” في القدس، وهو ما أكدته رسمياً وزارة خارجية الاحتلال، مبيّنة أنّ اللقاء تمّ في أحد فنادق القدس المحتلة.

فلسطين.. آخر همّ السعودية

عمدت السعودية إلى إرسال رسائلها الإيجابية إلى “إسرائيل” دون الوصول للتطبيع الكامل لعدة أسباب أهمها أنّ العائلة الحاكمة في المملكة منقسمة على الموقف من اتفاق التطبيع ما بين الموقف التقليدي السعودي المتمسك بالمبادرة العربية للسلام التي طرحتها السعودية بالعام 2002 وتبنّتها جامعة الدول العربية، وما بين الموقف الذي يبحث عن تجاوز الملف الفلسطيني وعدم ربط العلاقة مع “إسرائيل” بالمبادرة المذكورة أو غيرها، وكان التعبير الأوضح هو تصريحات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بالعام 2018 خلال لقائه مع منظمات يهودية في الولايات المتحدة بقوله: “فوّتت القيادة الفلسطينية مرةً تلو الأخرى الفرص ورفضت أي اقتراح قُدّم لها، وإنّ الوقت حان ليوافقَ الفلسطينيون على الاقتراحات وأن يوافقوا على الحضور إلى طاولة المفاوضات أو فليخرسوا ويتوقفوا عن الشكوى”، مضيفا: “إنّ الموضوع الفلسطيني ليس على رأس أولويات الحكومة السعودية ولا الرأي العام السعودي”، بحسب ما نقلته مصادر صحفية عبرية.

المانع الثاني للتطبيع العلني للسعودية هو الإدراك السعودي أنّ المكانة المحورية للمملكة في المنطقة العربية ورمزيتها الدينية معرضة للاهتزاز بقوة في حال التطبيع مع كيان الاحتلال، الذي ورغم سنوات من محاولات تدجين الوعي العربي وحرف تناقضه إلى العداء مع إيران، إلا أنّ الشعوب ما زالت ترى في الاحتلال العدو الأول وتتمسك بانحيازها المطلق للشعب الفلسطيني، وهو ما عبّرت عنه جموع الجماهير في مونديال كأس العالم بقطر في تظاهرة عربية عابرة للحدود أكدت المؤكد حول صلابة الموقف العروبي المنحاز للشعب الفلسطيني في وجدان الشعوب العربية.

أما المانع الثالث فهو انعدام أفق أي عملية سياسية “سلمية” ما بين السلطة الفلسطينية وحكومات الاحتلال المتعاقبة، التي تزداد تطرفاً وتصلباً تجاه الحقّ الفلسطيني عاماً بعد عام، وتتصاعد جرائمها ودمويتها وإجراءاتها على الأرض عاماً بعد عام، وسط غياب تام لأي موقف سياسي “إسرائيلي” يقبل مجرد الحديث على أرضية “حل الدولتين”.

المانع الأخير أنّ السعودية هي صاحبة المبادرة العربية للسلام، وبالتالي تعي تماماً أنّ أي اتفاق مع كيان الاحتلال سيعني بوضوح إلغاء المبادرة وطي صفحتها إلى غير عودة، وهو ما سيُعدّ تراجع مجاني تقدّمه المملكة لصالح الاحتلال دون أي ثمن.

لهذه الأسباب أجّلت السعودية الخطوة الكبرى بالوصول لاتفاق تطبيع كامل، في ما شكّل وصول إدارة بادين إلى البيت الأبيض عاملاً دافعاً لتثبيت الاندفاعة السعودية تجاه كل الرؤى المنسجمة مع التوجهات الأمريكية بسبب العلاقة التي بدأت متوترة منذ دعاية بايدن الانتخابية حتى وصوله إلى البيت الأبيض.

السعودية أولاً

إدارة بايدن وسلوكها تجاه السعودية في بداية فترتها الرئاسية أدت إلى انعطافة سعودية حادة للرد على ما اعتبرته “تعالي” أمريكي عليها، مما دفعها إلى تبنّي سياسة “السعودية أولا” والبحث عن خيارات أوسع لا تتحصر بالمعسكر الأمريكي، وهي الفرصة التي استثمرتها الصين جيداً عبر تعزيز العلاقة بشكل كبير مع المملكة في شتى الصعد والعمل على ملئ الفراغات التي سببها فتور العلاقة مع الولايات المتحدة.

هذه السياسة التي أنتهجها ولي العهد السعودي دفاعاً عن قيادته التي يحاول تقديمها باعتبارها “قوية ومؤثرة ومُجددة” في المملكة والمنطقة، سمحت بتطوير واسع للعلاقة مع الصين، والحفاظ على مستوى إيجابي مع روسيا، وصولاً للمصالحة مع إيران برعاية صينية، ورفض التلاعب بأسعار وكمية إنتاج النفط العالمية في مواجهة روسيا.

فتحت السياسة السعودية الجديدة شهية القيادة السعودية التي شعرت بنشوة تعدد الخيارات والمأزق الأمريكي المتصاعد على أثر الحرب الروسية – الأوكرانية، ومحاولات إدارة بادين ترميم حضورها قبل الانتخابات الرئاسية القادمة في الولايات المتحدة، وإعادة تعزيز حضورها في الشرق الأوسط، وهو ما دفع السعودية إلى وضع شروط “طموحة” مقابل ترميم حقيقي للعلاقة مع الولايات المتحدة، ضمن المسعى لتحقيق صفقة كبرى، تحصل السعودية وفقها على مفاعل نووي “سلمي” وتخصيب اليورانيوم على أرضها، إضافة لصفقة أسلحة كبيرة ونوعية، واتفاقية دفاع مع الولايات المتحدة شبيهة بما يحقّقه انضمام الدول إلى الناتو.

هذه الشروط السعودية المطلوبة من الولايات المتحدة لقبول المساعي الأمريكية لترميم موقعها المركزي في الشرق الأوسط ومواجهة التغلغل الصيني المتصاعد في العلاقة مع دول المنطقة، إلى جانب السعي لقطف اتفاق تطبيع مع كيان الاحتلال يقدّمه بايدن إلى ناخبيه كإنجاز في فترته الرئاسية.

إلى جانب هذه الشروط، تربط السعودية قبولها التطبيع مع الاحتلال بتحقيق اختراق حقيقي في القضية الفلسطينية، تستطيع السعودية تقديمه إلى الجمهور العربي كإنجاز يحفظ مكانتها المحورية في الشرق الأوسط وقيمتها الدينية، وهو ما يبدو بعيد المنال في ظل حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة الساعية إلى حسم الصراع مع الفلسطينيين وابتلاع ما تبقّى من الأراضي الفلسطينية عبر توسّع استيطاني متوحش.

“نتنياهو” وفريقه قللوا من قيمة وزن الملف الفلسطيني في الصفقة المنتظرة، إلا أنّ الواقع يقول إنّ السعودية من الصعب أن تخاطر بمكانتها مجانا، خصوصاً أنّ الإمارات قد قدّمت “تأجيل الضم” الذي كان يُفترض ضمن خطوات “صفقة القرن” إبان عهد الرئيسي الأمريكي السابق ترامب، كمنجز لجمهورها، ومبرراً لتطبيعها مع الاحتلال، وهو ما سيزيد من التصلب السعودي لتحصيل سقف أكبر.

السفير السعودي في فلسطين تمهيداً لـ”نصف تطبيع”

في خضم الحراك المتسارع للوصول إلى الصفقة، وفي خبر لافت، أعلنت السعودية عن تعيين سفير لها غير مقيم في الأراضي الفلسطينية على أن يتولى منصب القنصل العام في القدس أيضا، الخطوة السعودية أثارت العديد من التساؤلات حول هدفها، حيث قدّرت بعض وسائل الاعلام العبرية الدلالات بأنّها تعبير عن الالتزام السعودي تجاه القضية الفلسطينية وجديتها في مطلبها بتحقيق اختراق في هذا الملف رداً على التشكيك “الإسرائيلي” المتواصل بمحورية حضور الملف الفلسطيني على طاولة البحث.

إلا أنّ للخطوة جانب ثان، فهي بشكل أو بآخر قد تُمهد للتطبيع المرتقب، واستباق سعودي للخطوة الكبيرة فمن غير المنطقي إقامة علاقات رسمية مع “إسرائيل” دون تمثيل دبلوماسي سعودي لدى الفلسطينيين، إذ أنّ توقيت الخطوة التي غابت طويلاً يؤكد قطعاً ارتباط الإعلان السعودي مع سير المفاوضات مع الولايات المتحدة حول صفقة كبرى تتضمن التطبيع مع كيان الاحتلال.

ختاما، من غير المرجح نجاح المساعي الأمريكية في الوصول إلى صيغ جديدة، لأسباب كثيرة منها: الاعتبار الداخلي في الولايات المتحدة والحاجة لمصادقة الكونغرس على أي صفقة بهذا الحجم، ومنها مرتبط بالارتياح السعودي من مكاسبها خلال الوضع الحالي والعلاقة المنفتحة مع الصين وروسيا والمصالحة مع إيران، إضافة إلى أنّ وجود حكومة نتنياهو بتركيبتها الحالية يجعل من المستحيل تقديم تنازلات للفلسطينيين ذات قيمة حقيقية ترضي السقف السعودي للذهاب للتطبيع، إلا أنّ هذا لا يعني إغلاق قطعي لهذا الباب، وعدم تطوير صيغ الـ”نصف تطبيع” ما بين المملكة وكيان الاحتلال على أصعدة مختلفة، دون الخطوة العلنية الكبيرة.

#السعودية #التطبيع