بالرغم من تصريحات الاحتلال الإسرائيلي مؤخراً بأن عملياته في الضفة الغربية وخاصة في مخيم جنين كانت "ناجحة جدا"، إلا أن المعطيات تؤكد فشله في تحقيق أهدافه التي دخل من أجلها والتي تتمحور حول ضرب المقاومة وبنيتها التحتية وتجفيف منابعها وإنهاء حضورها العسكري.
في العامين الأخيرين أظهرت المقاومة الفلسطينية تقدماً نوعياً وجديدًا في إدارة المواجهات مع الاحتلال، وتنامياً ملحوظاً في العمل المقاوم، حيث قاد العدو تلك الهجمات بقوات كبيرة وقدرات استخبارية عالية، لكن المقاومة الفلسطينية تصدت -بجهود ذاتية- لتلك الاعتداءات وتمكنت من تفجير عدد من العبوات الناسفة محلية الصنع في آليات الاحتلال، بل وتصوير هذه المشاهد ونشرها عبر الإعلام، وكذلك استمرار إطلاق تجارب لصواريخ صغيرة شاهدناها وشكلت صدمة للاحتلال.
إن العمليات الفردية من دهس وقتل وطعن لجنود الاحتلال قد انتقلت الآن إلى مرحلة التشكيلات العسكرية المنظمة والمسلحة، ابتداء من عرين الأسود وكتيبة جنين وليس انتهاء بكتيبة بلاطة وكتيبة العياش وغيرها من التشكيلات، حتى أضحت بعض المناطق مثل جنين خارج سيطرة العدو الجغرافية، مما شكل صدمة للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
وهذه التشكيلات العسكرية -خاصة في شمال الضفة الغربية- قامت في العامين الأخيرين 2022/2023 بمئات العمليات العسكرية وتسببت بخسائر كبيرة للاحتلال، وما يميزها هو حالة التماسك من المقاتلين وإدارة المواجهة مع الاحتلال بحالة من الاتزان.
وبهذا تكون المقاومة في الضفة الغربية قد اتجهت نحو عهد جديد من الصراع مع العدو، خاصة وأن عملياتها العسكرية المنظمة أصبحت تحظى بدعم المقاومة في غزة وبتوجيه إعلامي مركز ومنظم، وهذا يشكل كابوسا كبيرا يواجه الاحتلال ويؤرقه وينسف مساعيه نحو التوسع في السيطرة وضم أكبر قدر من الأراضي الفلسطينية.
يأتي هذا التطور النوعي مع استمرار إطلاق الاحتلال عددًا من العمليات العسكرية في الضفة الغربية وبشكل خاص في جنين مؤخراً، واستمرار اعتداءات قطعان المستوطنين الممنهجة، وتضاعف عدد الاعتقالات والانتهاكات الإسرائيلية بحق أهل الضفة، ورغبة الاحتلال الواضحة في تقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياَ، بالإضافة إلى الاستمرار ببناء البؤر الاستيطانية وتوسيع المستوطنات، دون أي محاسبة دولية بل ربما بغطاء دولي في كثير من الأحيان.
ما الذي يؤرق الاحتلال؟
يخشى الاحتلال حالياً من انتقال ظاهرة التشكيلات العسكرية المسلح إلى باقي أرجاء الضفة الغربية بالعدوى، وتحذر من ذلك استخباراته بشكل دوري، لكن من الواضح أن هذا ما سيحصل بشكل تدريجي، فما إن تظهر خلية مقاومة في منطقة حتى تتبعها خلية أخرى في مكان آخر، وستتطور هذه الخلايا والتشكيلات بلا شك في المستقبل القريب إلى حالة صراع كبرى لن تنتهي إلا بإنهاء الاحتلال، والآن يمكن القول إن الضفة بشكل عام قد دخلت في مرحلة جديدة عنوانها لا تحكم كاملاً للعدو على الأرض ولن يعود يسرح ويمرح كيفما شاء ووقتما شاء.
في هذا الإطار، يُسخر الاحتلال معظم إمكانياته ومحاولاته من أجل القضاء على المقاومة في الضفة، ويقوم بين الفينة والأخرى بتنفيذ اقتحامات سريعة واعتقال وتصفية لقادة وأفراد المقاومة، والتضييق على الضفة بمحاصراتها كما يفعل مع غزة، ويبدو أن هذا الملف يشكل أولوية له في الوقت الحالي، بسبب الاحتكاك المباشر بين المجتمع الإسرائيلي وسكان الضفة الغربية في المستوطنات وأماكن العمل والشوارع المشتركة وغيرها.
لكن يبدو أن حكومة الاحتلال تدرك أنها قد وصلت لطريق مسدود في شمال الضفة الغربية، وأصبح من الواضح أن المحاولات اليائسة التي تقوم بها للقضاء على المقاومة ستزيد من حالة الصراع ما ينذر أيضا بتوسع حالة المقاومة الفلسطينية في الضفة.
وتزداد مخاوف الاحتلال وقلقه أيضاً في ظل عدم قدرة السلطة على إنهاء المقاومة أو احتوائها، بالرغم مما يقدمه للسلطة من دعم وتنسيق وعمل مشترك بالتوازي من أجل القضاء على المقاومة، وكذلك بعض التقديرات الأمنية التي ترى أن السلطة الفلسطينية مقبلة على حالة من الانهيار، في ظل تقارير كبيرة عنوانها ما بعد حقبة عباس المنتظرة !! ويظهر هاجس الخوف بوضوح في تصريحات قيادات الاحتلال من تحول جنين لغزة مصغرة!
كما تزداد مخاوف الاحتلال مع زيادة تأثير العمل المقاوم على الرأي العام في الشارع الفلسطيني، فقد لاحظنا كيف يستقبل الشارع الفلسطيني العمليات الاستشهادية بالتكبير والفرح وتوزيع الحلوى والخروج بالمسيرات المؤيدة، فهذا التطور للعمل المقاوم يرفع من معنويات الشباب الفلسطيني ويعطيهم الأمل بجدوى أعمال المقاومة، مما يحفزهم للخروج إلى الشوارع والميادين، والتوجه للمواجهة والتصدي لقوات الاحتلال ببسالة.
ما هي خيارات الاحتلال؟
تتعالى الأصوات داخل كيان العدو بالدعوة لزيادة كتائب وألوية الجيش في الضفة والذهاب لعملية موسعة، لكن الاحتلال لم يجرؤ على القيام بهذا الطرح حتى الآن لأن تكلفته عالية، وهذا ما يخشاه نتتياهو وغالانت ويرفضونه، كما أن خيار اجتياح الضفة قد يؤدي لانتفاضة شاملة في وجهه وتحول كل الضفة لساحة مقاومة مسلحة وهذا ما لا يريده الاحتلال، ولذلك فهو يمضي حالياً في استهدافات وهجمات سريعة ومحدودة تطال أفراد وقيادة المقاومة في الضفة وربما مستقبلا في غزة والخارج، من أجل إيقاف حالة الانتصار التي يعيشها الفلسطينيون.
إن خوف الاحتلال من الذهاب لعملية موسعة واجتياح الضفة جاء بسبب الجديد الذي ظهر مؤخراً في عمل المقاومة، والذي لم يعتد عليه الاحتلال من قبل، حيث تطورت أساليب المقاومة القتالية وأسلحتها الهجومية والتي كان من أبرزها العبوات الناسفة ذات القدرة التفجيرية الكبيرة، فهذه النقلة النوعية تشكل خطرًا كبيرًا على الأمن الإسرائيلي، لأنها أحدثت تغييراً جوهرياً في ميزان القوى بين الاحتلال والمقاومة، وبسببها أصبح العدو الآن يحسب ألف حساب لأي عملية واسعة في الضفة.
عمليات المقاومة هل ستبقى مستمرة ومتزايدة؟
إن تذبذب العمل المقاوم هو حالة طبيعية، فحينما تتوقف عمليات المقاومة يظن البعض أن جذوة المقاومة في الضفة قد انطفأت، لكن يتضح لاحقا نفي هذا الاعتقاد، فقد أثبتت المقاومة في الضفة أنها تقتنص الفرص ولكنها لا تموت، بل وعندما تقتنص الفرص فإنها لا تخجل من التصريح بالمسؤولية عنها، فقد تبنى القسام مؤخرا عددا من العمليات بمجرد وقوعها، وكذلك سرايا القدس، والتبني بهذه السرعة يزيد من إرباك الحسابات الإسرائيلية.
إن ابتكار المقاومة لوسائل جديدة وتطوير وسائلها القديمة في ظل استمرار الملاحقة الأمنية المسعورة يعد إنجازاً كبيراً، وقد ساعدها في ذلك الاحتضان الشعبي الذي يمثل المُدخَل الأهم في معادلة مقاومة الاحتلال، فالمقاومة الفلسطينية إنما تعبر عن تطلعات شعبها وتترجم حلمه بالعودة والتحرير وإنهاء الاحتلال إلى حقيقة قريبة، والذين يقاتلون اليوم في جنين وفي غيرها، هم من أبناء الشهداء والجرحى الذين ارتقوا على يد الاحتلال، ومن أجل ذلك ستضحي بأرواح خيرة شبابها من أجل الوصول لأهدافها.
ما هي ملامح المرحلة القادمة في الضفة الغربية؟
من المؤكد أن المرحلة القادمة ستكون أكثر حساسية من الماضية، وسيكون الكيان حذراً في تعامله مع الضفة بشكل عام وبعض المناطق بشكل خاص، ومن المؤكد أيضا أنه لن يمر مرور الكرام على هذه التطورات في العمل المقاوم، في ظل سعي قياداته للإثبات لمواطنيها بقدرتها على المحافظة على الردع الذي يتآكل من حين لآخر.
وقد يكون الكيان الآن أو مستقبلا أكثر حاجه للقيام بعمليات أكثر إجراما وعنفا لإعادة الردع والاعتبار والحفاظ على صورته ومحاولة إجهاض هذا التقدم النوعي للمقاومة، وسيسعى بالمزيد من الإجراءات مثل الاقتحامات المتكررة وزيادة الحواجز واستخدام سلاح الجو، وسيعمل على تقوية السلطة وتفعيل دورها الاستخباري بشكل أكبر في جمع المعلومات حول أماكن تصنيع العبوات، وتحديد الأفراد والقيادات المسؤولة والمساعدة في اعتقالها.
وبالمقابل، فإن المقاومة في الضفة قد أضحت أمام تحديات جديدة، مثل العمل تحت ضربات سلاح الجو، ولذلك فإنها ستحتاج لتوحيد صفوفها، والمحافظة على إدامة الاشتباك وتطوير منجزاتها السابقة، فلم يلجأ العدو إلى القصف إلا بعد استنفاد باقي الطرق، وخوفه من المواجهة المباشرة على الأرض بسبب عبوات المقاومين.
إن مستقبل المقاومة الفلسطينية لن يروق للاحتلال أبدا وسيكون لها اليد العليا في تقرير مصير الشعب الفلسطيني، وحركات المقاومة في غزة لن تألوا جهدا في محاولة نقل تجربتها المقاومة إلى الضفة من أجل التسريع في زوال الاحتلال الغاشم عن أرض فلسطين.