على أثر الهجوم العدواني الكبير للاحتلال على مخيّم جنين للقضاء على مجموعات المقاومة الناشطة في شمال الضفة الغربية، والتي يُعدّ المخيّم أكبر قلاعها، تداعت “القيادة الفلسطينية” للاجتماع، وهي بالمناسبة صيغة “فضفاضة” لاجتماع فصائل منظمة التحرير وقادة الأجهزة الأمنية وبعض الوزراء وبعض الشخصيات التي يُفضّل الرئيس أو فريقه دعوتهم للمشاركة ضمن قوام الاجتماع.
الاجتماع الذي جرى بدون مشاركة كل من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركتي حماس والجهاد الإسلامي، قد حمل عدة مخرجات تمثّل أهمها بدعوة رئيس السلطة واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير محمود عباس لاجتماع للأمناء العامين للتباحث والتدارس في سبل مواجهة الهجمة الصهيونية وتعزيز الوحدة الوطنية.
الاجتماع الذي كان مطلباً مُعلّقاً لسنوات من الفصائل والقوى، ليس كاجتماع فقط، بل كصيغة فاعلة للخروج بالمشهد الفلسطيني من الأزمة عبر قيادة تمثّل كل أطياف العمل السياسي الفلسطيني، وصولاً لمرحلة الإصلاح الحقيقي لمنظمة التحرير الفلسطينية لتكون مظلة حقيقية ممثّلة للشعب الفلسطيني بمختلف انتماءاته.
رحبت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مبكراً بالاجتماع، إلا أنّ تصريحها الصحفي المُرحِّب حمل مجموعة من المحاذير الجوهرية في مقدمتها أن تكون الدعوة جادة، وأن يُعقد الاجتماع بالقاهرة، والتعامل بمصداقية وجدية مع نتائجه والالتزام بما يصدر منه من توجهات وقرارات.
“الشعبية” دعت لتواصل هذه الاجتماعات وانتظامها بعيداً عن المناورة، وتحويلها مدخلاً لإنهاء الانقسام، وميداناً لمعالجة الشأن الداخلي وإدارة الصراع مع الاحتلال، وما يتطلّبه ذلك من إعادة بناء للاستراتيجية الوطنية التي تُعيد للصراع طابعه باعتباره شاملاً بين مكونات الشعب الفلسطيني كافة، وبين الكيان الصهيوني الاستعماري الفاشي بكل تعبيراته وتجسيداته على أرض فلسطين. مؤكدة أنّ كل هذا يستدعي مغادرة الرهانات الضارة على المفاوضات والاتفاقيات الموقعة مع الاحتلال، والمباشرة بتنفيذ قرارات المجلسين الوطني والمركزي والقرارات الوطنية بإلغاء اتفاق أوسلو وما ترتب عليه من اتفاقات لاحقة، والتزامات أمنية وسياسية واقتصادية، وسحب الاعتراف بالكيان الصهيوني، خاصةً أنّه قد بات الجميع أمام حقيقة الموقف الإسرائيلي الذي تجسده حكومة نتنياهو قولاً وفعلاً برفض قيام الدولة الفلسطينية، بل واجتثاث التفكير بها، والدعم الذي توفره الإدارة الأمريكية لهذه السياسة وللعدوان القائم على جنين وعلى الشعب الفلسطيني.
ما قدّمته الجبهة الشعبية في تصريحها يمثّل خارطة طريق حقيقية ليكون اجتماع الأمناء ذا قيمة ومغزى، حيث تعي “الشعبية” أهمية انعقاد صيغة الأمناء العامين، التي شكّلت إلى مدى قريب “الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير” إلا أنّ تحذيرها من أن يكون مناورة من الرئاسة نابع من التجارب السابقة الكثيرة في التعامل مع رئيس السلطة محمود عباس الحافلة بعدم استكمال أي خطوة في إطار الوحدة الوطنية ولملمة المشهد الفلسطيني.
في ما شهد موقف حركتي حماس والجهاد الإسلامي مناورة إعلامية تمثّل في نشر قناة “الجزيرة” لخبر عن مصادر قيادية في الحركتين، يُشير إلى تجاهلهم للدعوة لاجتماع الأمناء العامين، تبعه صدور بيان مشترك عن الحركتين يرحب ضمنياً بالدعوة ويعطي إشارة إيجابية للمشاركة فيه، في ما ظهر وكأنّه تفاوض ضمني حول جدية الاجتماع ومكان انعقاده وأهمية استثماره.
أعلن عضو اللجنتين التنفيذية لمنظمة التحرير والمركزية لحركة “فتح” عزام الأحد أنّ الرئيس محمود عباس وجّه دعوة لكافة الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية لحضور الاجتماع الذي سيُعقد في العاصمة المصرية القاهرة يوم 30 تموز/ يوليو الجاري.
أعلنت غالبية الفصائل المدعوة، وأبرزها الجبهة الشعبية والديمقراطية وحركة المبادرة وحزب الشعب، إضافة لحركة الجهاد الإسلامي استلامها الدعوة للاجتماع وأكدت حضورها، في ما بقي الموقف الوارد في البيان المشترك لحركتي حماس والجهاد الإسلامي هو الموقف الأوضح لحركة حماس من الاجتماع المزمع عقده في القاهرة وبمتابعة مباشرة من القيادة المصرية.
اجتماع الأمناء العامين سيكون الاجتماع الأول منذ أكثر من عشر سنوات لقيادة الفصائل الفلسطينية بحضور مباشر من رئيس السلطة ومنظمة التحرير محمود عباس، الذي لم يجتمع وجاهياً مع الأمناء العامين للفصائل منذ هذه السنوات الطوال، في ما عُقد اجتماع للأمناء العامين عبر تقنية الفيديو كونفرنس في كل من رام الله وبيروت، بالعام 2020، لمواجهة صفقة القرن.
رغم عدم منطقية مقاطعة الاجتماع المزمع عقده للأمناء العامين، باعتباره مطلباً دائماً للقوى والفصائل الفلسطينية، وخصوصاً فصائل المعارضة، إلا أنّ الآمال من جدية مُخرجات الاجتماع لا يمكن أن ترتفع أو تتجاوز مرحلة اعتباره مناورة جديدة من مناورات رئيس السلطة محمود عباس، وذلك ارتباطاً بتاريخ حافل من الاتفاقيات والقرارات التي بقيت حبراً على ورق، ولم تتجاوز فعاليات حدود قاعة الاجتماع، وذلك ينطبق على قرارات المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير، ومخرجات اجتماعات القاهرة وبيروت، ناهيك عن الأهم وهو مخرجات الاجتماع الأخير (رام الله- بيروت) للأمناء العامين والذي اتّخذ جملة من القرارات المُهمة التي لم ترَ النور (فعليا) حتى هذه اللحظة.
جرت عادة الرئيس محمود عباس اللجوء لاستخدام ورقة الفصائل و”الوحدة الوطنية” في المناورة مع الاحتلال والولايات المتحدة ودول الإقليم المنخرطة في الملف الفلسطيني، لتحفيزهم على التحرك باتجاهه وتقديم عروض جديدة لمنع الوصول إلى وحدة وطنية حقيقية يكون الخاسر الأكبر فيها هو الاحتلال، والرابح الأكبر منها هو الشعب الفلسطيني.
السلوك المعتاد لرئيس السلطة، مقترناً بالسلوك الميداني على أرض الواقع من السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، يطرح العديد من علامات الاستفهام حول مدى جدية خيار التوافق على استراتيجية وطنية وتوحيد البيت الفلسطيني، فمن يختار الوحدة الوطنية لا يُصعّد من وتيرة الاعتقالات السياسية ويحتجز المقاومين ويلاحقهم، ولا يطلق العنان لماكينته الإعلامية لمهاجمة خصومه السياسيين، ولا يسهّل صيغة إعادة الانتشار الأمني في جنين على أنقاض ما دمرته آلة الحرب الصهيونية.
الأمر الأكثر حساسية، هو استثمار فريق السلطة للاجتماع لتثبيت مجموعة من الصيغ لمرحلة ما بعد “أبو مازن” وضمان استمرار ذات الفريق في السيطرة على مقاليد الحكم والقرار الرسمي في المؤسسات الفلسطينية التمثيلية، وهو ما يتطلب من الفصائل المُشارِكة الاستعداد جيداً للتعامل مع سيناريوهات مختلفة يمكن أن يشكّل الاجتماع جسراً لها، فالمطلوب وطنياً استثمار الاجتماع ليكون فرصة حقيقية لحلحلة مشهد الانقسام، والأهم التوحد في خندق المواجهة مع الاحتلال ودعم صمود الشعب الفلسطيني، وتجنب إتاحة الفرصة لفريق السلطة لاستثماره في ترميم شرعيتهم المتهالكة أو تمرير صيغ مستقبلية قد تتحول إلى قيد على الشعب الفلسطيني وقواه.
أكثر التقديرات تفاؤلاً لا يمكن أن تُصنّف الاجتماع المذكور في خانة سوى خانة المناورة من فريق السلطة ورئيسها، إلا أنّ واقع وحساسية المشهد وحجم التحديات والمخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية تحتّم على الفصائل والقوى الاستجابة للدعوة ومحاولة استثمار الفرصة الأولى منذ سنوات طويلة لالتئام الأمناء العامين في اجتماع وجاهي مباشر، في محاولة تثبيت استراتيجية وطنية أو حتى رسم ملامح رئيسية لمغادرة نفق التيه الذي يعاني منه المشهد الفلسطيني منذ سنوات طويلة خلت