مثَّل اندحار الاحتلال عن مخيم جنين، وبعد يومين فقط من استمرار العدوان، دليلًا على فشل ذريع لإستراتيجيته بمواجهة المقاومة، وسط اعتقاد الكثير من الإسرائيليين أن استمرارها سيضعف قدرات الجيش على مواكبة تطوير نفسه، وأنها أحالت تفوقه النوعي، خاصة القنابل والصواريخ المتطورة إلى قوة محايدة، وساعدت على تهشيم بنية الردع العسكري، وإحباط نظرية الأمن، وإحلال مفهوم المجتمع المذعور محلّها.
لم يكن الانسحاب الإسرائيلي من جنين قرارًا طوعيًا، بل جاء عقب ما فقدته أسلحته ووسائله القتالية من قيمتها الردعية، أو تكاد، لأن الصاروخ المطور بمعونة أمريكية يمكنه تهديد عاصمة عربية، أو تدمير قاعدة عسكرية لجيش نظامي، لكنه لا يستطيع إلقاء القبض على مقاوم يتحصن في مخيم يحمل الكثير من المفاجآت الدامية لجنوده الغازين.
في الوقت ذاته، حملت ردود الفعل الإسرائيلية عقب الاندحار من جنين اعترافات بفشل القضاء على المقاومة، وقناعة متجددة بأن الجيش لن يكون بمقدوره أن يضع حدًا نهائيًا لها بوسائل القوة، وصولًا لوصف السياسة الأمنية التي تطبقها حكومة اليمين الفاشي بـ"الكارثية"، مما يحمل إقرارا بعجز القوة الإسرائيلية في القضاء عليها.
ليس ذلك فحسب، بل إن ما واجهه جيش الاحتلال في جنين في اليومين الأخيرين لا يشبه أي حرب خاضها من قبل، وتأتي استكمالًا لما عايشه من اشتباكات عنيفة في أزقة غزة وشوارعها قبل الانسحاب منها، حتى أن أحدنا يستحضر المقولة الشهير لإيهود باراك الذي قال ذات مرة إن "الفلسطينيين أضحوا مثل الوسادة، كلما وجهت لهم لكمة، ارتدوا بقوة، وكأنهم لم يتلقوها".
مع مرور الوقت، سيكتشف الإسرائيليون حجم اليأس والإحباط الذي ساد قيادتهم السياسية والعسكرية عقب نجاح المقاومة في امتصاص الضربات التي تعرضت لها في جنين، مما يجعل أقل ما يمكن أن يقال هنا أن حديث الاحتلال عن تقليص قدراتها هو أمر ليس فقط مبالغًا فيه، بل محض خيال.
بغض النظر عن العدوانات الإسرائيلية التي تستهدف المقاومة، وآخرها في جنين، فإن الاحتلال يجد نفسه مضطرًا للإقرار مرة واحدة وللأبد أنه لا يمكن القضاء عليها، ومن يندفع من قادة جيشهم كي يعلن كل يوم انتصارًا وهميًا عليها، فإن ما تقوم به يمثل الرد الحقيقي و"المؤلم" على مثل هذه الإعلانات الفارغة من أي مضمون.
كل ذلك يستدعي من الاحتلال وقادته التخلّي عن الكثير من المسلّمات التي تعلّق بها في الماضي، وبالرغم من أنهم يواصلون الحديث في الساعات الأخيرة عن الحسم الأمني والعسكري في مواجهة المقاومة، لكن عملياتها التي تجلت في تل أبيب، تدل على أن هذه إمكانية غير واقعية مطلقًا، ومن يواصل الحديث عن ذلك من الإسرائيليين يوهم نفسه فقط.