قوة خاصة من المستعربين، يتبعها آليات عسكرية ناقلات جند وجرافات وجيبات لجيش الاحتلال، تنفّذ عملية اعتقال أو اغتيال لمقاوم من المقاومين ومن ثم تنسحب، هكذا اعتاد الاحتلال تنفيذ عملياته في العامين الأخيرين، بعد أن بدأت المقاومة المسلحة تعود للميدان وتشتبك مع القوات المقتحمة.
وللمفارقة قبل سنوات قليلة، كانت مثل عملية الاعتقال المذكورة تنفَّذ بواسطة جيبّيْن أو ثلاثة كحد أقصى، تنفّذ الاعتقال وتنسحب، وقد تتعرض لبعض عمليات إلقاء الحجارة وزجاجات المولوتوف من قِبل الشبان.
العبوات الناسفة وتكتيكات المناورة والمعادلات الجديدة
فجر يوم 19 حزيران/ يونيو 2023، اقتحمت قوة خاصة من جيش الاحتلال حي “الجابريات” على أطراف مخيّم جنين بهدف تنفيذ عملية اعتقال لشاب فلسطيني، وكأي عملية سبق أن وصفناها، تدخل قوة المستعربين الخاصة تليها الآليات لتأمين انسحابها بعد إتمام العملية، لكن ما حدث كان مغايراً تماما، فمقاومو مخيّم جنين كان لهم ترتيب آخر للتعامل مع القوات المقتحمة.
اندلعت اشتباكات كبيرة في مكان الحدث تخللها مجموعة من الانفجارات لعبوات ناسفة ضمن كمائن أعدّها مقاومو مخيّم جنين مسبقاً للتعامل مع اقتحامات جيش الاحتلال، كان أكبرها عبوة ناسفة انفجرت مستهدفة ناقلة جند صهيونية من الأكثر تحصيناً في ناقلات جند جيش الاحتلال، بلغت تكلفة تحصيناتها مليون شيكل إلا أنّها لم تصمد أمام عبوة ناسفة أعدّتها أيدي أبطال جنين، إذ نجحت العبوة في إعطاب الآلية المستهدفة وتدمير جزء من بدنها وإصابة من بداخلها من الجنود.
لم تتوقف رصاصات المقاومين في مخيّم جنين عن الانهمار على الآلية المُستهدفة والآليات التي تقدّمت لإخلاء الجرحى وسحب الآلية، في ما استمرت عبوات أبطال المخيّم في الانفجار في عدة كمائن مستهدفة آليات أخرى، في مشهد ملحمي لم تشهده جنين ولا الضفة الغربية منذ انتهاء انتفاضة الأقصى.
اضطُّر جيش الاحتلال إلى قصف محيط الآليات المُستهدفة بصواريخ طائراته المروحية لأول مرة منذ أكثر من 17 عام، بهدف تأمين غطاء ناري لإخلاء جنوده الجرحى وآلياته المعطوبة وإيقاف تقدُّم المقاومين تجاه الآليات ورصاصاتهم الموجهة نحو القوات المساندة.
أكثر من 11 ساعة من الاشتباك المتواصل، في عملية عسكرية بدأت الساعة 4 فجراً وانتهت الساعة 3.30 عصراً تركزت معظمها في محاولة الاحتلال الانسحاب من المخيّم وإخلاء جرحاه وسحب الآليات المتضررة بفعل العبوات الناسفة.
وفقاً لصحيفة “يسرائيل هيوم”، فقد شارك في العملية مئات الجنود من 6 وحدات مختلفة منها وحدات النخبة بجيش الاحتلال جفعاتي وماجلان ودوفدفان والمستعربين والمظليين، مع غطاء جوي من المروحيات، في معركة أسفرت عن إصابة 8 جنود منهم جندي مظلي من جنود الإسناد الذي دخلوا لإخلاء الجرحى، إضافة لإعطاب أكثر من 7 آليات بفعل العبوات الناسفة.
في تقرير للقناة 12 العبرية، يتحدث الصحافي “أوهاد حمود” واصفاً ما حدث في المخيّم بـ”إنّنا نعود 20 عاماً إلى الوراء، نعود إلى مشاهد انتفاضة الأقصى، بالشهور الأخيرة تحولت جنين لتصبح بؤرة لتفريخ العمليات بشكل استثنائي، كثافة كبيرة للمسلحين المتواجدين داخل المخيّم، ورشات لصناعة المتفجرات والعبوات الناسفة، المئات من المسلحين والقناصة، ثواني معدودة من تواجد القوات داخل المخيّم ويبدأ إطلاق النار من كل مكان، إنّه حقاً مكان مختلف عن أي مكان آخر”.
دلالات مهمة عكستها المواجهة في مخيّم جنين
بعد أسابيع من الهدوء في مخيّم جنين، تصدّر مخيّما نور شمس في طولكرم وبلاطة في نابلس المشهد، حيث لم يخلُ كلا المخيّمين من استخدام عبوات ناسفة ذات قدرة تفجيرية أكبر وأكثر قدرة على إصابة آليات الاحتلال، نجح خلالها المقاومون في تحقيق عدد من الإصابات بفضل هذه العبوات.
عادت جنين إلى الواجهة وحملت الصور والتوثيقات المرئية الواردة من المخيّم مجموعة مهمة من الدلالات التي سترسم ملامح المرحلة القادمة في المواجهة مع الاحتلال في الضفة الغربية، خصوصاً بعد رهان العديد أنّ حالة الاشتباك بدأت تخبو وتتراجع وذاهبة إلى الانحسار التدريجي.
أظهرت قوة ونجاعة وحجم العبوات الناسفة تطوراً ملحوظاً في قدرات المقاومين على تصنيع عبوات ناسفة ذات فعالية تفجيرية مؤثرة ضد الدروع وتحصينات آليات جيش الاحتلال، في ما تؤكد المشاهد التحسن في قدرة الإصابة واستهداف الآليات بدقة، وهذا ما عكسه عدد الآليات المعطوبة والفيديوهات الواردة من داخل المخيّم التي وثّقت عمليات الاستهداف.
يظهر جلياً التحسن الكبير في قدرة المقاومين في المخيّم على إتقان إطلاق النار مقارنة بالسنوات السابقة، حيث أصابت رصاصات المقاومين الآليات بشكل مباشر ونجحت في تعطيل عمليات إخلاء الجرحى من جنود الاحتلال، وتعطيل سحب الآليات المعطوبة لساعات.
من جهة أخرى يعكس حجم الخسائر في صفوف المقاومة تطوراً ملحوظاً في قدرة المقاومين على المناورة وتأمين خطوط الانسحاب والانتشار بمواقع مؤمّنة، وبذات الوقت تحقُّق الغاية العملياتية للكمائن وكشْف تحرك القوات واستهدافها.
استطاع مقاومو المخيّم الحفاظ على وتيرة وزخم الاشتباك بكثافة حتى الدقيقة الأخيرة لانسحاب آخر آلية من آليات جيش الاحتلال المقتحمة للمخيّم، وهي مدة تتجاوز الـ11 ساعة، وبخسائر محدودة في صفوف المقاومين، وهذا يعكس قدرة على إدارة النيران، وجهوزية في الإمكانيات والذخيرة للتعامل مع عمليات عسكرية لجيش الاحتلال تستمر لساعات طويلة على هذا الغرار.
من المهم الأخذ بعين الاعتبار أنّ الاحتلال قد تكبد هذا الحجم من الخسائر بالرغم من أنّه لم يقتحم المخيّم فعليا، والمناطق التي جرت فيها المواجهة هي مناطق تقع على مشارف المخيّم، أي أنّ ما حصل ليس سوى نموذج مُصغّر عما جهزه المقاومون داخل أزقة المخيّم التي تسمح بمدى أكبر من المناورة وهامش أضيق من الحركة لآليات جيش الاحتلال بسبب طبيعة شوارع المخيّم الضيقة والكثافة السكانية.
تؤشر الدلالات سالفة الذكر إلى أنّ مجموعات المقاومة في مخيّم جنين بشكل خاص، وشمال الضفة بشكل عام قد حقّقت تقدّم نوعي على عدة أصعدة، أهمها استخلاص العبر والدروس من الاقتحامات السابقة لجيش الاحتلال، وتطوير أدوات المواجهة والاشتباك وتعزيز قدرات المناورة وإدارة النيران وتكامل العمليات الميدانية، في ما نجح المقاومون في رفع كلفة اقتحام جيش الاحتلال على الاحتلال، وتخفيض قدرة الاحتلال على استهداف المقاومين قدر الإمكان.
حسمت المواجهة الأخيرة على مشارف مخيّم جنين العديد من الرهانات على كون الحالة المقاومة زوبعة في فنجان، وحالة استعراضية تستنزف الشباب المقاوم بلا وجهة أو هدف حقيقي، وأكدت أنّها مشروع يتقدم ويتطور باتجاه تصعيد الاشتباك مع الاحتلال وخلق معادلات اشتباك جديدة وجدية ترفع من كلفة الاحتلال وتستنزف جيشه وتستعيد المبادرة الثورية المقاومة.
كيف سيتعامل الاحتلال مع الواقع الجديد من معادلات الاشتباك؟
تزداد المعادلات تعقيداً ميدانياً أمام جيش الاحتلال الذي يعمل منذ عامين على قدم وساق لتفكيك الحالة المقاومة عبر سياسات “جز العشب” وعمليات “كاسر الأمواج” التي لم تفلح لا في تفكيك الحالات ولا في منع توسعها، بعد مرور ما يقارب العامين استطاعت المقاومة أن تتوسع وأن تُصلب بُنيتُها وقدراتها العملياتية وهيكليتها، وانتشارها الجغرافي، فاليوم هناك مجموعات مقاومة صلبة وقوية تنشط في جنين ومخيّمها وطولكرم ومخيّماتها، نور شمس وطولكرم، ونابلس ومخيّماتها، بلاطة وعسكر والعين، وبدأت تنشط مجموعات طوباس والفارعة بشكل أكثر، في ما نجحت في إيقاع مجموعة من الإصابات في جيش الاحتلال خلال آخر شهرين، ونجحت في إفشال العديد من عمليات جيش الاحتلال.
تطور العبوات الناسفة، وقدرات المقاومين على تنفيذ الكمائن والاشتباك المباشر مع جيش الاحتلال، والقدرة على إفشال عمليات الاعتقال والاغتيال التي حاول جيش الاحتلال تنفيذها، ورفع كلفة الاقتحامات التي كانت اعتيادية لجيش الاحتلال، يضع جيش الاحتلال أمام استحقاقات جديدة لمواجهة هذا التطور المستمر لمجموعات المقاومة، في ظل تصاعد الأصوات التي تنادي بتنفيذ عملية عسكرية واسعة تستهدف أماكن نشاط مجموعات المقاومة في شمال الضفة.
لا تزال أوساط صنع القرار في كيان الاحتلال ورغم جدية دراستها لسيناريو شن عملية عسكرية في شمال الضفة، إلا أنّ هذا السيناريو لا يحظى بالموافقات الكافية من كل من جيش الاحتلال وجهاز الأمن العام الصهيوني “الشاباك”، يرى قادة جيش الاحتلال أنّه ما زال بإمكان الجيش تحقيق نتائج عبر العمليات الموضعية الخاصة دون الدخول في عملية عسكرية واسعة، بينما يحسب جهاز “الشاباك” حساب نتائج وارتدادات عملية عسكرية مشابهة على الوضع في الضفة إجمالاً وعلى مشهد اشتباك المقاومة مع الاحتلال ومعادلة “وحدة الساحات” وإمكانية نشوب مواجهة أكبر لا تقتصر على الضفة الغربية فقط، خصوصاً مع المحددات الواضحة لغرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة في غزة، والتي ترى في عملية عسكرية مشابهة سبباً مباشراً قد يدفعها للانخراط في المواجهة ومنع الاستفراد بمقاومي الضفة الغربية، إذا ما اقتضت الحاجة إلى ذلك.
في غالب الأمر، قد يتجه جيش الاحتلال إلى تنفيذ مجموعة من العمليات الأوسع نسبياً من العمليات الحالية والتي قد تستهدف بقعاً محددة مثل المخيّمات الأكثر اشتعالاً الآن، مخيّم جنين ومخيّم نور شمس ومخيّم بلاطة، بحيث تكون عمليات لساعات طويلة قد تتجاوز اليوم، يعمل فيها على تفكيك معامل تصنيع العبوات الناسفة واعتقال واغتيال أبرز المطلوبين الناشطين وجمع أكبر قدر ممكن من قطع السلاح من المناطق المستهدفة وسيعمد خلالها إلى رفع فاتورة الدمار والدم الفلسطيني لاستعادة صور “كي الوعي” التي ثبّتها خلال سنوات انتفاضة الأقصى.
ربما يستطيع جيش الاحتلال وحكومة الاحتلال وأجهزتها الأمنية أن تحدد شكل العمليات العسكرية التي ستُنفّذ لمواجهة تطور وتقدُّم مجموعات المقاومة، إلا أنّ المعركة الأخيرة في مخيّم جنين ثبّتت قاعدة جديدة، أنّ جيش الاحتلال يمكن أن يختار توقيت الدخول وحجمه، إلا أنّه لن يكون صاحب الخيار لوقت وشكل الانسحاب، وحجم الخسائر التي سيتكبدها جنوده وآلياته، وأنّ جعبة المقاومة حافلة بالعديد من المفاجآت.