في الأيام الأخيرة لشهر أيار/مايو المنصرم، بدأ جيش الاحتلال المناورات العسكرية المشتركة لـ”هيئة الأركان” التابعة له تحت اسم “اللكمة القاضية” والتي ستسمر لأسبوعين. ووفقاً للإعلان الرسمي لجيش الاحتلال، ستحاكي المناورة قتالاً متعدد الجبهات في الجو والبحر والأرض والسايبر، وستختبر المناورة قدرة الجيش على الاستعداد لمعركة طويلة في عدة ساحات. وستشارك في التدريبات قوات الجيش النظامية والاحتياطية من جميع القيادات والأسلحة والألوية، إضافة للتعامل مع ما ينشأ من تحديات وأحداث متفجرة في عدة ساحات في نفس الوقت.
المناورة، والتي تُصنّف من المناورات الأكبر التي يجريها جيش الاحتلال، تشارك فيها كل أذرع وأسلحة الجيش وقيادات مناطقه الجغرافية الثلاث: الشمالية، الجنوبية والوسطى، بالإضافة إلى قيادة الجبهة الداخلية، تأتي في توقيت حساس ودقيق، إلا أنّها وفق إعلان جيش الاحتلال هي جزء من الأنشطة المجدولة له ضمن تدريبات العام 2023.
حساسية التوقيت والتهديدات المتزايدة التي تحيط بالاحتلال في ضوء تصاعد الفعل المقاوم، وتوسّع نشاط قوى المقاومة في المنطقة والتغيرات السياسية الكبرى التي يمر بها الشرق الأوسط والعالم، بما فيها التقارب بين دول المنطقة والتراجع الأمريكي عن الاهتمام بالشرق الأوسط، وتأثيرات الحرب الروسية – الأوكرانية على التوجهات العالمية والتبدلات الجذرية في أولويات دول العالم، تخلق واقعاً جديداً يضع الاحتلال في قلب بيئة مجافية خارجيا، مع تعاظم التحديات الداخلية، وهو ما يجعل من المناورة الحالية محطة مهمة لإرسال العديد من الرسائل الضمنية لخصوم وأصدقاء “إسرائيل” إضافة لطبيعتها التدريبية والتقييمية للأخطار المحيطة.
خطر تعدد الساحات
من مقر قيادة العمليات تحت الأرض في المجمع العسكري “الكرياه” في “تل أبيب”، شارك مجلس وزراء الاحتلال السياسي والأمني “الكابينت”، في مناورة الجيش، وجرى تقييم وضع المناورة بقيادة رئيس وزراء الاحتلال “بنيامين نتنياهو” الذي استغل الفرصة لتوجيه مجموعة من الرسائل كان أهمها: التأكيد على الالتزام بالعمل ضد النووي الإيراني وضد الهجمات الصاروخية التي يمكن أن تستهدف الأراضي المحتلة وضد إمكانية توحد الساحات في “حرب متعددة الساحات”.
بالرغم أنّ هناك العديد ممن شككوا بأنّ فرضية “الساحات المتعددة” في مواجهة الاحتلال لن تتعدى في جديتها حيّز الأقوال، وأنّ حديث قوى المقاومة عن استعدادها الجدي للوصول لهذه النقطة، يبدو واضحاً أنّ الاحتلال يأخذ هذا التحدي بجدية كافية، ليس لأنّه يحدد سياساته ارتباطاً بالخطابات والتهديدات والبيانات، بل وفق رصد دقيق تجريه أجهزة استخبارات الاحتلال، التي عبّرت صراحة في مؤتمر “هرتسيليا” الأمني قبل أيام من انطلاق المناورة، عن مخاوفها مما يتشكّل ويتصاعد في المنطقة.
وفقاً لتقرير للصحافي والمحلل العسكري الإسرائيلي “ألون بن دافيد” فإنّ السيناريو الذي طُرحت المناورة محاكاة له، تمثّل في التعامل مع رد حزب الله على الطلعة الجوية الهجومية الأولى لجيش الاحتلال، حيث لم يتأخر الرد من الشمال كثيراً وبدأ حزب الله يمطر العمق “الإسرائيلي” بآلاف الصواريخ، وتضمنت محاولات لقوات “الرضوان” التابعة له السيطرة على مستوطنات على خط المواجهة.
ووفقاً للسيناريو، يشتد القتال على طول الحدود وتُطلق إيران رشقات صاروخية وطائرات بدون طيار على أهداف في “إسرائيل”، وفي نهاية هذا الأسبوع لم تقرر “حماس” بعد الانضمام إلى القتال، لكن من المتوقع أن يشمل السيناريو دخولها المعركة في الأسبوع الثاني.
بعد ثلاثة أيام من القتال، قدّم جيش الاحتلال خطته الهجومية على لبنان، والتي تتضمن مناورة واسعة “هجوم بري” من المتوقع أن يستمر عدة أيام، وهو ما طلب “نتنياهو” ووزير جيشه تعديله وإعداد بديل محدود يُقصّر من أيام القتال.
يعي الاحتلال أنّ الإنجازات التي يمكن أن تحقّقها مناورة عميقة وطويلة في لبنان سوف تتآكل أمام تكلفتها، فكل يوم مناورة سينتج عنه العديد من الضحايا في الجبهة ويطيل من مدة النار التي ستسقط على الجبهة الداخلية، ومن المحتمل أن تؤدي ملخصات هذه المناورة إلى تغييرات في الخطط العملياتية للجيش.
الحضور الأمريكي في المناورة
على خلفية تصاعد التهديدات التي يُطلقها الاحتلال ضد إيران، والتلويح المتصاعد بتوجيه ضربة عسكرية “ولو منفردين” للبرنامج النووي الإيراني، وصل قائد المنطقة المركزية في الجيش الأمريكي مايكل كوريلا إلى كيان الاحتلال.
الجنرال الأمريكي شارك في المتابعة والاشراف المباشر على المناورة العسكرية الضخمة، إذ حرص جيش الاحتلال على عرض صورة يظهر فيها كوريلا إلى جانب رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال هرتسي هليفي، وهو يشرف على توجيه المناورة العسكرية.
بالرغم من أنّ الناطق باسم قيادة المنطقة المركزية الأمريكية صرّح بأنّ الزيارة تأتي ضمن “مواصلة قيادة المنطقة المركزية سلسلة زياراتها الاعتيادية، التي يشارك فيها عدد من كبار قادتها المتواجدين في المنطقة”، إلا أنّ جيش الاحتلال قد حرص على نشر صورة كوريلا إلى جانب هليفي بهدف إرسال رسالة رادعة إلى كل من إيران و”حزب الله” بشأن التزام وانسجام الولايات المتحدة مع الخطط العدائية “الإسرائيلية” وعدم المراهنة على ورقة “التراجع الأمريكي في المنطقة”.
الرسائل الضمنية خلف غبار الآليات والطائرات وغرف العمليات
تحمل المناورة عدة رسائل سعت مستويات الاحتلال السياسية والعسكرية إلى إيصالها، تتركز أبرزها في التالي:
• رسائل لإيران: الرسالة الرئيسية التي سعى الاحتلال إلى إيصالها إلى إيران هي أنّ الخيار الهجومي وتوجيه ضربة عسكرية للمفاعلات النووية والمقدّرات التسليحية الإيرانية هو خيار جدي على الطاولة، وأنّ “إسرائيل” لن تتوانى عن تفعيل هذا الخيار في ضوء استمرار إيران في توسيع معدلات تخصيب اليورانيوم والاقتراب من امتلاك القنبلة النووية، في ما يُشكّل الحرص على إظهار صور الجنرال الأمريكي “كوريلا” في غرفة عمليات المناورة استكمالاً للرسالة بأنّ الولايات المتحدة ستكون حاضرة إلى جانب كيان الاحتلال، في سعي “إسرائيلي” للتغطية على الخلاف الواضح مع الولايات المتحدة حول إمكانية اللجوء للخيار العسكري ضد إيران، خصوصاً مع إعادة الحديث جدياً عن اتفاق نووي جزئي مع طهران.
• رسائل لقوى المقاومة: يهدف استعراض القدرات العسكرية والقوة النارية والقدرات المتطورة للسايبر وأدوات الذكاء الاصطناعي وخيار الاجتياح البري للأراضي اللبنانية والضربات الجوية الواسعة للساحات المتعددة، إلى بث رسائل ردع ساخنة لقوى المقاومة من أنّ اللجوء الجدي لخيار معركة متعددة الساحات ستكون تكلفته كبيرة جداً على الأطراف المشاركة، وأنّ الاحتلال لن يتوانى عن استخدام كل قدراته في المواجهة التي قد تنشأ.
• رسائل لدول التطبيع والإقليم: الحراك والتقارب المتسارع الذي أنتج دفء في العلاقات بين دول المنطقة، وبشكل خاص بعد المصالحة الإيرانية – السعودية، وعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية وإعادة فتح السفارات، أجهض محاولات “إسرائيل” في بناء تحالف بقيادته في المنطقة يستهدف إيران، ويرى أنّ هذه النتيجة هي محصلة عدم الالتفات الأمريكي للشرق الأوسط، وعدم قناعة الدول التي يصفها بـ”المعتدلة” بقدرة “إسرائيل” على مواجهة إيران، وبالتالي تحمل المناورة رسائل تطمينية حول قدرات الاحتلال الهجومية في التصدي للخطر الإيراني والمواجهة مع أذرع إيران في المنطقة، بهدف الحفاظ على ما تمّ إنجازه من اتفاقيات تطبيع، وتعزيز فرص جديدة للتطبيع مع السعودية.
• رسالة للولايات المتحدة: سعى كيان الاحتلال إلى التأكيد للولايات المتحدة أنّه لن يتوانى عن استخدام الخيار العسكري ضد إيران ولو منفردا، مما يشكّل ضغطاً كبيراً على الولايات المتحدة التي تحاول الوصول لاتفاق نووي ولو جزئي مع إيران قبل الانتخابات الأمريكية القادمة.
بالرغم من أنّ الظاهر من المناورات هو عملياتي- هجومي، إلا أنّها تحمل رسائل سياسية متعددة الاتجاهات، في ما أنّ الثابت الأساسي أنّ الاحتلال سعى من خلال المناورة لبث رسائل “ردع” بشكل كبير لخصوم الاحتلال، وطمأنة لحلفائه، حول قدرته على التعامل مع التحديات الناشئة، وفي مقدّمتها تحدي الحرب متعددة الساحات التي لم تخوضها “إسرائيل” منذ 50 عاماً في حرب 1973 التي بقيت كابوساً يلاحق الاحتلال، واليوم بات يرى الخطر يتكرر ويتصاعد بأدوات وساحات وقوى مختلفة عن الحرب التقليدية قبل 50 عاما، في واقع ليس الأمثل للاحتلال لا داخلياً ولا إقليمياً ولا دوليا.