فلسطين المحتلة - قُدس الإخبارية: دخل جيش الاحتلال جولة العدوان على قطاع غزة محملاً برزمة أهداف أبرزها توجيه ضربة لفكرة الارتباط بين قضايا القدس والضفة وفصائل المقاومة، في القطاع، وفي الخلفية محاولة لترميم الصورة المهزوزة التي تضاعفت في الصورة الأخيرة، خاصة مع حالة الضعف الداخلي في مجتمع المستوطنين.
بدأت الجولة بتوجيه عملية اغتيال إجرامية لقادة في سرايا القدس، وخلال أيام القتال حرص جيش الاحتلال على قتل مزيد من المستويات العليا في الجهاز العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، بهدف تحقيق نجاحات على مستوى الوعي وفي محاولة لتوجيه ضربة للسرايا تسبب إرباكاً أو هزة في صفوفها.
كانت تقديرات الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في دولة الاحتلال تتوقع أن تكون الجولة القتالية على نموذج جولة الرد على اغتيال القيادي في سرايا القدس، الشهيد بهاء أبو العطا، عام 2019 لكن ظهر سريعاً أن إدارة المعركة من قبل المقاومة لم يكن وفقاً للنموذج الذي رسمته استخبارات الاحتلال.
حافظت المقاومة على ضبط ميداني وعملاني لأكثر من 12 ساعة، عقب جريمة اغتيال القادة جهاد الغنام وخليل البهتيني وطارق عز الدين مع عدد من أطفالهم ونسائهم، وأدخلت المنطقة في حالة "غموض" حول شكل الرد، ورغم عمليات القصف الاستفزازية التي نفذها جيش الاحتلال، انطلقت في عمليات القصف من نقطة البداية التي اختارتها، وكانت الوجبة الأولى من الصواريخ تصل من وسط فلسطين المحتلة
انطلقت عمليات الرد تحت شعار "ثأر الأحرار" وفي إطار غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة، وحتى اللحظات الأخيرة من المعركة واصلت المقاومة ضرب المستوطنات والمواقع العسكرية خاصة المحيطة بقطاع غزة بالصواريخ، ورغم كثافة التغطية الاستخباراتية التي بذلها جيش الاحتلال على طول قطاع غزة، باستخدام مختلف الأنظمة التكنولوجية والبشرية، بقيت المقاومة توازن في رشقاتها الصاروخية وفقاً لمتطلبات الرد على العدوان.
رغم فداحة الخسارة باستشهاد عدد من قادة سرايا القدس، على مستوى الحركة والشعب الفلسطيني، إلا أن المقاومة حافظت على قدرة قتالية خلال أيام الجولة، ولم تتطور النجاحات التكتيكية التي حققها الاحتلال في بداية المعركة في تسجيل نقاط استراتيجية على المقاومة، وبقيت الفعاليات العسكرية تراوح في إطار المعادلة القديمة التي رسختها المقاومة بدماء غزيرة ومجهودات مضنية، طوال سنوات ما بعد تحرير غزة.
عمليات الاغتيال التي نفذتها قوات الاحتلال لمفاصل المجلس العسكري في سرايا القدس، وطالت قيادات تاريخية مضى على انخراط بعضها في مسيرة المقاومة أكثر من 3 عقود، دفعت جانباً من الجمهور والمؤيدين إلى السؤال حول أسباب هذه الخسارة الكبيرة على مستوى المقاومة ككل، إلا أن النظر إلى المدى الأوسع من الصورة يشير إلى أن قطاع غزة بما هو مساحة جغرافية صغيرة محاصرة وتخضع لأقسى عمليات المراقبة الأمنية من قبل قوة الاحتلال التي تمتلك أدوات متقدمة في التجسس والمراقبة، يشير إلى أن محافظة المقاومة على قادتها لعقود وإفشال عمليات الاغتيال الواسعة لهم هو إنجاز تراكم بفضل جهود مضنية خاضتها في تطوير أدواتها الأمنية، وهذا لا يمنع إجراء مراجعات على المستويات الداخلية بين فصائل المقاومة.
صممت دولة الاحتلال مفهوماً نظرياً خلال العدوان على قطاع قوامه محاولة فصل حركة الجهاد الإسلامي عن حماس، من خلال تسريبات وعمل دعائي مركز يوحي بأن جيش الاحتلال لا يريد إلا استهداف سرايا القدس، تزامناً مع تصريحات أخرى وجهت تهديدات باغتيال قادة من القسام، في سياق هذه المحاولة، ورغم إعلان قيادات الحركتين والناطقين باسمهما على أن الرد يجري من خلال غرفة العمليات المشتركة التي تضم فصائل المقاومة، بقي هذا الجدال متصدراً في الوسط الفلسطيني والتقارير الإعلامية الإسرائيلية، وهو ما يشير بوضوح إلى الأهمية التي تحتلها المعركة الإعلامية في المعارك التي لا تصل فيها الأطراف المتحاربة إلى نقطة الحسم، من ناحية التأثير على وعي الخصم وتفتيت جبهته الداخلية.
أثبتت معركة "ثأر الأحرير" من جديد حاجة قوى المقاومة والجمهور المساند لها إلى صياغة عميقة في الأدوات الإعلامية والخطابات والقضايا الرئيسية التي تتصدر مساحات الجدل، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ باتت قوى عديدة تدفع بلجان إلكترونية لتعزيز التشتيت والهجمات الداخلية عن ساحة المعركة الرئيسية، التي تتطلب انخراط الجماهير كل في موقعها في عملية توسيع المعركة مع الاحتلال، وليس الاكتفاء فقط بالمجهود العسكري الرسمي الذي تنفذه الأجهزة العسكرية للفصائل.
يأخذنا النقاش والجدال الذي يثار حول قضايا داخلية، في وسط الحرب، إلى الأهمية المركزية التي تحتلها مسائل "الوعي/ الخطاب/ التعبئة"، في حروب العصر الجديد، التي تنطلق بداية من العمليات العسكرية وتصل إلى أدق التفاصيل في المجتمع، ولم تعد المعارك تخاض فقط بين متحاربين، بل تختبر القوى المعادية كل قدرات الصمود والضعف في المجتمع الذي يتعرض للحرب.
تصدرت سرايا القدس حملة رد المقاومة على جرائم الاحتلال، وخلال أيام المعركة تضافرت دلالات على التنسيق العالي مع كتائب القسام في موضوعات مختلفة، قد يكشف عنها في المستقبل، وفي بيان نعي الكتائب للشهيد القائد إياد الحسني والإشارة إلى دوره في التنسيق معها خلال المعركة، إشارات قوية على ذلك.
راكمت السرايا في الجولات المتلاحقة التي خاضتها مع جيش الاحتلال، في السنوات الماضية، قدرة الحفاظ على الاتزان في المعركة وزخماً متصاعداً من المقذوفات والصواريخ على مساحات واسعة من فلسطين المحتلة، بإسناد ومشاركة من بقية فصائل المقاومة التي قدمت عدداً من الشهداء في هذه الجولة، إذ زفَت كتائب أبو علي مصطفى وكتائب المجاهدين عدداً من مقاتليها في مختلف الوحدات شهداء، خلال مشاركتهم في المعركة.
بقيت "تل أبيب" ومدن العمق المحتل بنداً ثابتاً على جدول عمليات القصف التي نفذتها المقاومة، وشكل الصاروخ الذي ضرب "روحوفوت" ودمر مبنى وترك فيه خسائر فادحة على المستوى البشرية، إشارة دقيقة إلى حجم التطور الذي وصلت له صواريخ المقاومة على المستوى التدميري وقدرات تجاوز منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلي.
اعترف الاحتلال خلال المعركة بانخفاض مستوى نجاعة "القبة الحديدية"، وتوقع مراقبون وخبراء أن يكون تكتيك كثافة النيران في فترات متقاربة والهجمات السيبرانية دور في هذا الإطار، كما اضطر الاحتلال لإدخال منظومة "مقلاع داود" المخصصة للصواريخ الباليستية في عمليات التصدي للصواريخ التي أطلقت من قطاع غزة.
أرادت دولة الاحتلال من العملية العسكرية عرقلة مشروع "توحيد الساحات"، وتوجيه ضربة لمساعي فصائل المقاومة وبينها الجهاد الإسلامي دعم ساحة الضفة المحتلة، ولكن على المستوى الأعلى لا يبدو أن بعض النجاحات تملك دولة الاحتلال الثقة بالنجاح في منع تقدم هذه المشاريع، في ظل بقاء المقاومة محافظة على بنيانها العسكري والتنظيمي ودرجة من التنسيق المشترك، ورغم الجرائم التي ارتكبها جيش الاحتلال بحق المدنيين من خلال قصف المنازل، إلا أنه لم ينجح في تدمير الاحتضان الشعبي للمقاومة.
عمليات "تدفيع الثمن" التي نفذها جيش الاحتلال ضد المنازل والمدنيين في قطاع غزة يجب أن تدفع المجتمع الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية والمؤيدة لفلسطين، إلى خلق استراتيجية عملانية لتهشيم الحصار المفروض على غزة، الذي يمثل أحد أدوات تكبيل المقاومة ومنعها من زيادة قدراتها العسكرية أو امتلاك أدوات أكثر نجاعة على مستوى الصراع، بالإضافة للأذى العام الذي يلحقه بالشعب الفلسطيني في القطاع.
تثبت معركة "ثأر الأحرار" أن المشاريع الاستراتيجية الكبرى للمقاومة، في المنطقة، من قبيل "توحيد الساحات" بحاجة إلى مجهودات فكرية وعملانية أكبر، وإعلامية في الوقت ذاته لإعطاء الصورة الدقيقة عن المشروع للجمهور، ودفعه للانخراط فيه ومد الصلات مع مزيد الفئات في الأمة لإحكام الطوق الاستراتيجي حول دولة الاحتلال، دون الغرق في "التضخيم" أو "التبخيس" بل الاستعاضة عن ذلك بدفع الناس إلى المشاركة ضمن الواقع كما هو في إطار السعي لتغييره لصالح المقاومة، وتحسين بيئة عملها الاستراتيجية التي تشكل أداة أخرى في المعركة، على المستوى الأعلى، إذ أن الحصار الذي فرضته دول في المنطقة بالتعاون مع دولة الاحتلال والولايات المتحدة يؤخر على الشعب الفلسطيني مزيد من السنوات لتمتين مشروع المقاومة والتحرير.
يسجل على هذه المواجهة نقاط عملانية مختلفة، قد تكون من اختصاص أجهزة المقاومة، التي تملك المعلومة الدقيقة إلا أن ما يمكن أن يقال في اليوم الأول للهدنة أن العلاقات بين فصائل المقاومة وخاصة حماس والجهاد، هي مهمة استراتيجية في الصراع مع الاحتلال، ويجب أن تأخذ مداها الأوسع في تعميقها وزيادة التعاون على مستويات مختلفة في الميدان العملي في المعارك، أو على مستويات أخرى في الأمن والاستخبارات والتنسيق.
بينما أراد الاحتلال من المعركة ضرب مفاهيم تشكلت في العقل الفلسطيني والعربي، خاصة مع معركة "سيف القدس"، ومعاقبة أي يد تمتد لدعم المقاومة في الضفة المحتلة، خاضت المقاومة المواجهة تحت شعار تثبيت الحق في الرد ومنع الاحتلال من تحقيق نظرية الفصل بين القوى، وما زالت الطريق أمام تثبيت المعادلات الاستراتيجية الأعلى على مستوى وحدة الساحات، وترابط الجبهات المنطقة في الطريق الطويل نحو التحقق الكامل، وبحاجة لموارد بشرية وسياسية واسعة.