حفل شهر رمضان بتطورات حملت في طياتها أثراً لن يكون عابرا، ولم ولن تتوقف تأثيراته عند حدود الفاعلين المباشرين، لتصبح هذه التأثيرات جزءاً أساسياً من حسابات الإقليم وخيارات الحرب والسلم في المنطقة.
سبق حلول شهر رمضان حراك واسع قادته الولايات المتحدة الأمريكية بمشاركة كلٍ من مصر والأردن وجهود كبيرة مع السلطة الفلسطينية وحكومة الاحتلال، بهدف خفض وتيرة التصعيد وتبريد إشارات التوتر الكبيرة الصادرة من الميدان، ورصدتها كل أجهزة الاستخبارات والأمن في المنطقة، كما رصدتها وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA التي وصل رئيسها “وليام بيرنز” إلى المنطقة ضمن جهود منع التصعيد، وهو ذاته الذي عبّر عن قلقه من الأوضاع في الأراضي المحتلة، مشيراً إلى أنّ الأمور قد تؤول لانتفاضة ثالثة.
“بيرنز” ليس فقط رئيساً لوكالة من أهم وأقوى وكالات الاستخبارات والأمن في العالم، بل هو أيضاً يعرف الأراضي الفلسطينية المحتلة جيدا، وبحسب تصريحه في جامعة “جورج تاون” فقد ذكر أنّه “شغل موقعاً دبلوماسياً كبيراً خلال فترة الانتفاضة الثانية، والآن يرى أموراً غير سعيدة تُذكّر بتلك الأيام”، فهو يعي تماماً ما هي إشارات الانتفاضة الفلسطينية، ويعرف أنّ ما يراه من تطورات متلاحقة لها مرد واحد، المحصّلة التي يعمل هو وحكومته مع الاحتلال والسلطة لمنع الوصول إليها.
رغم تتابع مسارات اجتماع العقبة وشرم الشيخ، وبقاء وفود أمريكية في المنطقة لمتابعة التطورات ومنع التصعيد، لم تفلح كل هذه المحاولات في ثني فدائي فلسطيني من إطلاق رصاصته الثائرة على جنود الاحتلال في حوارة مع حلول موعد الإفطار الأول في رمضان، كما لم تمنع كل حواجز وإجراءات الطوارئ والاستنفار المقاومين من الرد على اقتحامات الأقصى والاعتداء على المرابطات، بعملية بطولية في الأغوار نجح منفّذوها في الإجهاز على هدفهم والانسحاب بسلام.
بذات العزيمة، لم تتمكن كل محاولات التدجين، الضغط، التسهيلات، والإجراءات الأمنية والتهديدات، من منع قيادة المقاومة من اتخاذ قرار واضح وجريء، بأنّ الاعتداء على المعتكفين في المسجد الأقصى لن يمر، ولم يمر، وكما كانت مسيرة الأعلام والاعتداء على أهالي الشيخ جرّاح في العام 2021 حدثاً مفصلياً لم تتوقف ارتداداته إلى يومنا الحاضر ولم يُغمد “سيف القدس”، كان الاعتداء على المعتكفين في المسجد الأقصى أيضاً في العام 2023 حدثاً مفصلياً ليعيَ العالم أجمع حجم “درع القدس” الموجود، والممتد من غزة إلى لبنان، فدمشق وطهران، كما بغداد وصنعاء، ورأس حربته في الضفة المحتلة خط المواجهة الأول، وعمقه في الأراضي المحتلة عام 1948.
هدأت الأراضي الفلسطينية المحتلة، ودخل المحتل وحلفاؤه في حالة من الصدمة، فالسيناريو الذي كان حبيس التقديرات “المتشائمة” للجنرالات والباحثين، أصبح اليوم واقعا، نموذجاً صغيراً من الاشتباك متعدد الساحات والجبهات، المترابطة والمتكاملة، كان كفيلاً بأن يتداعى الاحتلال المأزوم لسحب مبررات التصعيد، واتخاذ إجراءات التهدئة الميدانية الحقيقية والابتعاد عن مسببات المواجهة، ورفع أقصى درجات الاستنفار تحسباً لـ”يوم القدس العالمي”.
“تبدّد الردع” كان العنوان الأبرز لشكل وطبيعة رد الاحتلال على المقاومة وهجومها متعدد الجبهات، والفعل المهزوز والمتردد في مواجهة جبهات متحدة، بنتها وعزّزتها المقاومة عبر عشرات السنوات من التضحية والنحت بالصخر والإرادة في مواجهة قوة احتلال مدعومة دوليا، لم تنجح ولم ينجحوا مجتمعين في منع إرادة المقاومين من الوصول إلى هدف كان لوقت قريب تنظيراً طوباوياً لا مكان له في الواقع.
هل انتهى التصعيد مع انتهاء شهر رمضان الذي عُدّ أنّه محور التصعيد القادم، والذي شهد ما شهد من مواجهات واشتباكات وعمليات فدائية، فهل تتوقف تفاعلات المشهد مع انتهائه؟
من المهم أن نعيَ جميعاً أنّ معادلة المواجهة مع الاحتلال ليست موسمية، وإن شكّل تلاقي مجموعة من المسارات في موسم محدد عنواناً يرفع من مؤشرات التصعيد في هذا الموسم، وهذا هو واقع شهر رمضان التي تتقاطع فيه الأنشطة التهويدية الصهيونية في موسم الأعياد اليهودية مع الشهر الفضيل عند المسلمين، وعيد الفصح وسبت النور عند المسيحيين، حيث يعمد الاحتلال إلى التضييق على المسلمين والمسيحيين والاعتداء على المصلّين وتصعيد محاولات ترسيخ التقسيم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى.
لن يتوقف الاحتلال عن محاولاته لتثبيت تقسيمه الزماني والمكاني، فهذا هدف استراتيجي له عمل عليه منذ سنوات طويلة، كما لن يتوقف الشعب الفلسطيني عن مقاومته ومواجهته لكل المخططات الصهيونية لاقتلاعه من أرضه وتهويد مقدساته، بل ويشهد هذا الشعب زخم النهوض والانتفاض وتعاظم الفعل والقوة، ويشهد عدوه بوادر الانكسار والتراجع والانحسار.
يعي الاحتلال تماماً أنّ تبدد معادلة “الردع” سيشكّل المدخل الرئيسي للهزيمة والتقهقر لمنظومته الإجرامية في وجه توسع وتعاظم جبهات المقاومة التي باتت تعمل وفق وتيرة ونسق متحد ومتكامل، وبالتالي يعي أنّ الحفاظ على دولته يتطلب ترميماً سريعاً لهذا “الردع”، وهو ما يعني حاجته للبحث عن معركة صغيرة يحقّق فيها “الردع” الذي يبحث عنه بعد أن هشّمت المقاومة أسطورته، هذه المعركة التي يبحث عنها سيحتاج فيها الاحتلال إلى تنفيذ ضربة غادرة تستهدف ساحة من ساحات المقاومة بإجرام كبير يبحث تحت نيرانه ودمويته عن إعادة الاعتبار للوحش من الغبار الذي بددته المقاومة.
لن تتوقف مؤشرات التصعيد مع انتهاء شهر رمضان، كما ولم تنتهِ محطات الانفجار، فالأيام القادمة تحمل مناسبات قد يتحول أيّ منها إلى عنوان للانفجار والمواجهة، فإلى جانب حاجة الاحتلال لترميم صورته، تحمل الأيام القادمة ذكرى “استقلال” كيانهم المزعوم ونكبة شعبنا الفلسطيني في منتصف أيار/مايو القادم، كما يحل في نهاية ذات الشهر موعد “مسيرة الأعلام” الصهيونية التي يحتفل بها الصهاينة في ذكرى “احتلال القدس” ويطوفون بالآلاف في شوارع وأزقة المدينة ويقتحمون باحات المسجد الأقصى، وقد كانت المسيرة شرارة انطلاق معركة “سيف القدس” بالعام 2021، وهي محطة سيكون عمادها الاستنفار والترقب من كل الفاعلين.
لن تتوقف تفاعلات “وحدة الساحات” كما لم تتوقف مفاعيل “سيف القدس” ضمن السياسة التراكمية لقوى المقاومة في المنطقة، وستبقى المقاومة حاضرة وجاهزة للتعامل مع كل حماقات الاحتلال ومغامراته، في ما لن تنتظر أن يوجّه لها الاحتلال أي ضربة مباغتة لا تكون مستعدة لها، وباتت اليوم المقاومة تتابع وتقرأ وترصد وتحلل الاحتلال جيدا، ولديها القدرة على إفشال مخططاته العدوانية القادمة، وستحافظ على معادلاتها الجديدة وترسّخها بالتضحيات والدماء إن لزم.