كما كان متوقعا، لم تتوانَ شرطة الاحتلال عن رفع وتيرة الإجرام في قمع المصلّين المعتكفين في المسجد الأقصى، وبشكل خاص في المسجد القبلي، إذ لم تتوانَ قوات الشرطة عن إطلاق القنابل الصوتية واقتحام المسجد القبلي والاعتداء على المعتكفين بالضرب والتكسير وإطلاق الأعيرة المطاطية، وتنفيذ حملة اعتقالات واسعة ومنع الإسعاف من الوصول إليهم، واعتقال أكثر من 400 فلسطيني.
نجحت الدعوات التحشيدية ودعوات الفصائل والخطاب التعبوي في خلق واقع جديد على صعيد الحشد الجماهيري داخل المسجد الأقصى، والزيادة الواضحة في عدد المعتكفين الزاحفين إلى المسجد الأقصى وغالبيتهم من المقدسيين وأبناء الشعب الفلسطيني في الداخل المحتل، في ضوء التقييدات المفروضة على وصول أهالي الضفة الغربية، وشكّل العدد الكبير للمعتكفين تحدياً مهماً أمام شرطة الاحتلال التي قمعتهم باستخدام كل أدوات القمع الإجرامية.
ساهمت المادة المصورة الخارجة من داخل المسجد القبلي وتوثيق حجم الإجرام الصهيوني إلى خلق حالة من التعبئة العامة الشعبية في كل الأراضي الفلسطينية على امتداد فلسطين التاريخية، مما ساهم في دفع الجماهير الفلسطينية إلى نقاط التماس وخلق حالة غير مسبوقة من الحشد والالتحام.
وفق رصد خاص بمركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، فقد سجّلت الضفة الغربية أكثر من 30 نقطة اشتباك مسلح من بعد منتصف ليلة الثلاثاء الـ4 من نيسان/أبريل لغاية الساعة 9 من صباح الأربعاء 5 أبريل، حيث ارتفع عدد نقاط الاشتباك بما يوازي 200%، مع تسجيل التوسع الجغرافي في نقاط الاشتباك، فإلى جانب النقاط المعتادة في كل من نابلس وجنين وطولكرم، سجلت مدن جديدة حالات اشتباك مسلح واستهداف لنقاط الاحتلال في كل من رام الله وبيت لحم والخليل وطوباس وأريحا، في ما كان الاشتباك الأكثر زخماً وسخونة في بيت أمر بالخليل حيث استمر لأكثر من ساعة ونتج عنه إصابة محقّقة لجندي من جنود الاحتلال.
شكّل الالتحام وتكامل المشهد الجماهيري والمقاوم في الأراضي الفلسطينية رسالة مهمة، حيث شهد قطاع غزة تحرك جماهيري ومن ثم تحرك مقاوم بإطلاق أكثر من 11 قذيفة صاروخية استهدفت غلاف غزة، إضافة إلى وجود تحركات جماهيرية في الداخل المحتل كان أبرزها في أم الفحم وعكا والناصرة ومجد الكروم واللد والرملة وسخنين.
رسائل الميدان كانت الأوضح
رسالة الجماهير الفلسطينية أثبتت أنّ الخزان الانتفاضي لدى الشعب الفلسطيني جاهز للانفجار ويحتاج إلى قيادة ميدانية حقيقية وإيقاف محاولات السلطة المحمومة لمنع الانفجار، كما أكدت المؤكد في أنّ القدس تُثبت أنّها عنوان الاجماع الفلسطيني وبالتالي فإنّ الشعب الفلسطيني على اختلاف أماكن تواجده مستعد لكسر كل التوقعات انتفاضاً لأجل القدس.
توكد الزيادة في نقاط الاشتباك أنّ حالة الغليان الشعبي حاضرة، وأنّ خطاب التعبئة والتحشيد إذا وُجّه بالشكل الصحيح واللغة الصحيحة وكان بعيداً عن التجاذبات السياسية، سينجح في ضخ المزيد من الثوّار إلى أرض المواجهة في كل نقاط التماس، كما أنّ إطلاق الصواريخ من قطاع غزة شكّل حدثاً مهماً قطع الطريق أمام محاولات حرف البوصلة وتقديم غزة وكأنّها حُيّدت مسبقاً عن معادلة الاشتباك بفعل تأثيرات الوسطاء أو المساعدات المالية أو ضغط التسهيلات الاقتصادية، وشكّلت أيضاً دفعة معنوية منطقية للجماهير في الضفة المحتلة والقدس.
وضعت الأحداث السلطة ومصر والأردن في موقف مُحرج جدا، نظراً لما وفّره الاحتلال من المادة اللازمة للتأكيد على عدم احترامه لأي خطوط حمر أو محاولاته تجنّب الاشتباك لمنحهم المساحة اللازمة للضغط على كل الأطراف لمنع التوتر والتدحرج في الأوضاع، وأثبت أنّ مخرجات العقبة وشرم الشيخ تُلزم السلطة والوسطاء وليس على الاحتلال أي قيد حقيقي، كما أعاد الحدث في ليلة الثلاثاء الزخم للاشتباك المتوقع في رمضان، وقطع الطريق أمام المحاولات المحمومة التي بُذلت على مدار أسابيع لتبريد الأوضاع ونزع فتائل الاشتعال والمواجهة.
الاحتلال ومعادلة التصعيد والمواجهة
يعكس حجم الإصرار الصهيوني على قمع المعتكفين مدى الاصرار على تثبيت التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، وهو الهدف الاستراتيجي للاحتلال، وبالتالي هو مستعد لتجاوز كل الأشكال المقبولة والمنطقية في إطار تثبيت التقسيم الزماني والمكاني مهما كان الثمن.
وبالتالي وعلى أهمية خطاب “ذبح القرابين” يجب التنبّه لعدم حصر الأزمة في هذا الشكل، والتأكيد على أنّ الاحتلال ووجوده وتعدياته المستمرة على المسجد الأقصى، ضمن سياسة العدوان والتهويد الشامل هو محور الأزمة، وأنّ التقسيم الزماني والمكاني هو الخطر الأساسي الذي لن يمر، والمحافظة على حالة المواجهة داخل باحات الأقصى في مواجهة هذا التقسيم، وتحويل كل عملية اقتحام للمستوطنين إلى عنوان للمواجهة.
على صعيد المشهد الداخلي للاحتلال، لا زال نتنياهو يتعامل مع الحدث بمنطق “إدارة الأزمة متعددة المستويات” إذ يعمل على ضبط درجات التوتر، دون التراجع عن السقف المعتاد والسماح باقتحامات المستوطنين وتثبيت التقسم الزماني والمكاني، وتمرير الفعاليات التهويدية في عيد الفصح دون السماح بممارسة الطقوس التلمودية كذبح القرابين، ويتجاوز نتنياهو عقد اجتماع للكابينت للتعامل مع التحذيرات والتطورات الأمنية الساخنة، لتجاهل المواجهة مع شركائه من “الصهيونية الدينية” وبشكل خاص سموترتيتش وبن غفير، اللذين دعوا إلى تصعيد المواجهة وتنفيذ حملة “السور الواقي 2” واغتيالات لقادة المقاومة في غزة.
إلا أنّه من المهم الأخذ بعين الاعتبار أنّ استمرار حالة الضغط ورفع وتيرة المواجهة لن تبقي نتنياهو محصوراً في خيارات الإدارة المنطقية للأحداث، وهذا يتطلب متابعة وتقييم لحظي، لأنّ خيار المبادرة بفتح اشتباك خارج الضفة (قد يكون ضربة استباقية للقطاع)، سيبقى حاضراً إن كان الحل الأمثل لإجهاض فعل انتفاضي واسع في الضفة، يجب أن يبقي هذا السيناريو خاضعاً للفحص الدوري والمتابعة الدقيقة.
ختاما، يُعتبر اليوم الأول من الأسبوع الأسخن في رمضان فرصة مهمة لاستنهاض الهمم وتوسيع دوائر الاشتباك والمواجهة، وهو زخم بحاجة للمراكمة عليه والاستعداد لكل السيناريوهات القادمة، مما يتطلب أوسع درجة من التنبه والتعامل الديناميكي مع التطورات التي يمكن أن تشكّل أحداثاً متدحرجة في أي وقت.