اشتهر مؤخراً الفيلم التسجيلي – الفلسطيني –الإسرائيلي -"خمس كاميرات مكسورة" الذي كاد أن ينافس على الجائزة الأولى في مهرجان " كان" العام المنصرم، والذي بالطبع حظي أيضا بدعم فلسطيني شعبي ورسمي، فعرضته السفارات الفلسطينية المختلفة حول العالم، ودعت أحزاب عربية في الأراضي المحتلة عام 1948 وخاصة تلك التي تنافس على مقاعد العرب في الكنيست إلى مشاهدته ونظمت له المسارح وأفردت له المساحات، وقام كثيرون - مفتخرين - بمشاركة صور المخرج وزوجته – الفلسطينية – البرازيلية- بثوبها الفلسطيني على السجاد الأحمر في كان، على حساباتهم الفيسبوكية.
يحاول الفيلم وهو من إخراج الفلسطيني عماد برناط والإسرائيلي غاي دافيدي، بالتعاون مع القناة الثامنة الإسرائيلية، تسليط الضوء على مسيرة ما يسمى بـ "المقاومة الشعبية السلمية"، وذلك من خلال حكاية عائلة برناط في قرية بلعين، وتوثيق خمس مراحل من عمر النضال ضدّ الاحتلال، وذلك عبر المرور بحكاية خمس كاميرات كسرت أثناء المظاهرات نتيجة لاعتداءات جيش الاحتلال والمستوطنين.
خطة أعدت مسبقًا
ما هي رسالة المخرج الفلسطيني على وجه التحديد، وماذا أراد أن يقول عبر مشاهد فيلمه؟ هو السؤال المعتاد الموّجه لأي فيلم في محاولة لترجمة صوره إلى كلمات ومعان، تلك الصور التي تحتمل التفسير والتأويل وتحمل رسائل كامنة، أعتقد أن الإسرائيلي شارك في صياغتها، تماما كما شارك في إخراج الفيلم وإنتاجه.
تَهَرَبَ المخرجُ من الإجابة على مثل هذا السؤال، فما يعنينا، بحسبه، أن الفيلم قد أنتج، ولكن أين وكيف، تلك تساؤلات يخترق سائلها الخط الأحمر كما أدركت خلال "دردشة" قصيرة الأمد مع برناط على هامش عرض للفيلم التسجيلي في "سينما جنين".
يقوم الفيلم التسجيلي، والذي استغرق تصويره أكثر من خمس سنوات، على ركيزة أساسية مركبة من عدد من الأشخاص لكلّ واحد منهم الدور الذي كان يتقنه. لم يكن التصوير ولا الإخراج مجرد فعل عبثي كما يحاول المخرج القول، فمن السهل ملاحظة أن الفيلم معد له مسبقًا وكذلك السيناريو كما يظهر من خلال أسلوب برناط بعرض بعض الحكايا وإجراء المقابلات بصورة تبدو للوهلة الأولى عفوية، تمامًا كما يمكن وصف المخرج الفلسطيني العفوي، فمخرج لا يدرك قوة الصورة وتأثيرها مدعيًا بان أغلب اللقطات كانت تلبية لمطالب الرغبة وحب الاستطلاع، أقل ما يمكن وصفه به هو أنه مخرج حديث العهد وقع ضحية لـ" أصدقائه" الإسرائيليين، الذين استغلوا على ما يبدو توقه للتميز، واستطاعوا تقدير ثمن ما وقع في يديه من صور ولقطات وتأثيرها أكثر وأبعد مما قدره هو بكثير.
سأعرض من خلال هذا المقال تحليلاً سريعاً لأهم المشاهد فيه:
حُرّاس الجدار و"العدل" الإسرائيلي
يعرض الفيلم حكاية النضال الشعبي في قرية بلعين واحتجاجات سكانها على قرار إسرائيلي بإقامة سياج فاصل بين القرية وعدة مستوطنات أقيمت على أرضها، فوقع الجدار قريبا من القرية يفصل بين سكانها والمستوطنين بقصد حماية المستوطنين، يقف على بوابته عدد من الجنود يحرسونه، كما يروي المخرج في فيلمه، لتتحول صورة الجدار مع مرور الدقائق إلى بوابة صغيرة يحرسها جندي إسرائيلي بات كمن يملكها، فيحظر على الفلسطينيين الاقتراب منها بعنف، يفتحها على مصراعيها بيديه دون أي مقاومة، ليسمح لهم بدخول أراضيهم الواقعة خلفه، ثم تنتقل المشاهد بخطوات من شأنها أن تقنع المشاهد بأحقية الجندي بحراسة جداره وحمايته من كل من يحاول اختراقه أو الاقتراب منه، فكل شيء مسموح حتى الدخول إلى الأرض عبر بواباته، شريطة عدم إلقاء الحجارة واستفزاز الجنود.
الجنود بدورهم يظهرون في الفيلم بصور مختلفة، فتارة يظهر الجندي ذو القلب الرحب الرحيم، فهو إنسان مستعد لسماع الانتقادات ومهيأ لتقبل الصراخ الفلسطيني، يقبل هدية الأطفال ويبتسم في وجوههم، تلك الهدية التي حملها الطفل جبريل لأحد الجنود الذين قتلوا صديقه كما يأتي لاحقًا، في مشهد لا معنى له سوى ترجمة لمقولة " قاتلوا الناس بالحب" وهم يقاتلونكم بالرصاص، الجندي الذي يخشى على نفسه من الوقوف أمام القاضي الإسرائيلي في حال تعرضه للفلسطينيين كما يظهر من خلال صراخ المخرج عماد برناط المتكرر (سأقاضيك وأحاكمك) مفترضًا بذلك قيمة عدلية تتجمل بها المحكمة الإسرائيلية التي تظهر بمظهر العادل المنصف في أكثر المشاهد التسجيلية.
ثم يظهر الجندي تارة أخرى بمظهر العنيف القاسي، بيد أن قسوته تلك مبررة للمشاهد إذ هي مجرد "رد" على استفزازات الفلسطينيين الذين يسمح لهم بدخول البوابة بهدوء، بالتالي فان إلقاء الحجارة واستفزاز الجنود يعد نوعًا من أنواع " المشاكسة" غير المبررة للمشاهد الذي لا يدرك حقيقة الموقف، وحقيقة انتزاع الجدار لكل أسباب الحياة في تلك القرية وتمزيقها، وإتاحة سرقة مواردها المائية والزراعية كما يظهر ذلك في خلجات فيلم آخر للمخرج الإسرائيلي غاي دافيدي.
عُمق مفقود ومساواة بين ضحية وجلاد
يخلو الفيلم من العمق والتعمق في أكثر المسائل حساسية، فالمستوطن هنا مجرد " همجي" خارج عن القانون الإسرائيلي لا يأبه بالمحاكم، يقوم ببناء وحداته على الأراضي الفلسطينية بذكاء، فهو يبدأ بمنازل متنقلة، ثم سرعان ما يثبت أقدامه عبر بناء إسمنتي يخالف به القانون الإسرائيلي نفسه الذي يحظر البناء في تلك المنطقة، في مشاهد من شأنها أن تُغيب المؤسسة الصهيونية نفسها عن الصراع، وهي العقل المدبر الذكي للمد الاستيطاني بالضفة الغربية عبر قوانينها الأشد إجحافا وعنصرية وجرأة عبر التاريخ، فإسرائيل في فيلم عماد برناط لا تظهر أبدًا كشريك أساسي وعقل مدبر لكل ما تتعرض له الضفة الغربية من نهب للأرض والمقدرات، وإنما يظهر أن السبب في خسارتها هو مجرد ثلة من المستوطنين الهمجيين.
وتزيد مقولة المخرج بأن "فيلمه موجه نحو الخارج لنقل المعاناة الفلسطينية" من المشهد تعقيدًا، فالفيلم يبتعد كل البعد عن تصوير "إسرائيل" على حقيقتها، إذ ينحصر الصراع في مشاهده بين مواطنين متساوي الحقوق، وثلاثة أطراف لا أكثر.
أما الطرف الأول فهو الجيش كما يسمى اصطلاحًا في أغلب المشاهد، فبرناط أطلق على الجنود مصطلح " الجيش" فحسب، دون الإشارة إلى أنه جيش احتلال إسرائيلي لا هدف من وجوده سوى القتل والدمار وتنفيذ أوامر المؤسسة بحماية المستوطن السارق وفرض التمييز وتهيئة الأجواء لنهش الجسد الفلسطيني.
ثم تتوالى الأحداث وتتمحور بين طرفين إضافيين، هما المستوطن، والفلسطيني، فالحكاية كلها تدور في هذا الفلك بين هذا الثلاثي في معزل بعيد عن المؤسسة الإسرائيلية الرسمية، التي على عكس ذلك تظهر بمظهر العادل المساوي بين الجميع عبر محاكمها العادلة التي تحكم بإزاحة السياج قليلا عن بعض الأمتار في بلعين، وقوانينها الأكثر "ديمقراطية" التي تحظر على المستوطنين البناء في تلك المنطقة الفلسطينية، دون تسليط الضوء على سبب مصادرة هذه الأراضي بالأساس عبر خطة مدروسة ومحكمة، فلا يمكن إلا القول بأن الفيلم يدعم الرواية الإسرائيلية الرسمية بشكل غير مباشر، حيث يحاول الاحتلال بالحقيقة تسويق المد الاستيطاني عبر التضحية ببعض النقاط الاستيطانية وهدمها وتنميط الصورة من خلال عرض المستوطن بمظهر الخارج عن القانون الذي سيحاسب على خرقه، بينما يستمر النهش بالخفاء عبر قنوات رسمية وغير رسمية إلى أن يحين وقت الاعتراف بالنقطة الاستيطانية عبر تمثيليات باتت مكشوفة تمتاز بصعوبة في قرار الاعتراف وبعض الاحتجاجات من قبل شرائح إسرائيلية سرعان ما يخفت صوتها وتركن إلى الأمر الواقع لتصير المستوطنة جزءًا من "الدولة" تمامًا كمستوطنة "ارئيل" ومخاضها العسير المفضوح عبر تمثيلية استغرقت سنوات، كانت نتيجتها الاعتراف بها وبجامعتها بسهولة على مرأى العالم ومسمعه.
"إسرائيل" … مؤسسة حيادية غائبة
ويتعمق الفيلم أكثر في تصوير حالة المساواة وتجنيب "إسرائيل" أي مسؤولية، فالصراع يدور بين الفلسطيني والمستوطن الذي يقوم بالبناء في الأراضي الفلسطينية، فيقلده الفلسطيني من خلال بناء منازل متنقلة في الأرض نفسها، دون أن يبدي الجيش اعتراضًا، وتحكتم تلك المنازل في مصيرها إلى همجية المستوطن نفسه الذي يقوم بحرق الأرض وتدمير المنازل، بدعم الجيش ومساندته، الجندي نفسه الذي يظهر مرة أخرى بمظهر رجل الإصلاح الذي يتدخل لحل النزاعات الطفيفة بين المستوطنين والفلسطينيين، ويحمي الجانبين في بعض الأحيان.
إن تجنيب المؤسسة الإسرائيلية الرسمية وتغييب دورها وهي العقل المدبر للاحتلال والمدّ الاستيطاني وغيره من أشكال الإجحاف والسرقة في فيلم برناط يبدو مدروسًا بإحكام، ليس عبر برناط نفسه في حال قدّرنا بعفويته، إنما من جانب من يصفهم بـ" الأصدقاء الإسرائيليين" الذين وقفوا كما يبدو من خلال البحث العميق عن مراحل إنتاج الفيلم، وقفوا على السيناريو والإنتاج والمونتاج، فسيناريو الفيلم على سبيل المثال هو من كتابة وتدقيق المخرج الإسرائيلي المعروف "غاي دافيدي"، الذي ومها بلغ فيه الأمر من اليسارية لن يتجرأ بكل تأكيد على إظهار دولته ومؤسساتها الرسمية الحاكمة بمظهر المجرم البشع القاتل، تمامًا كما تؤكد لنا مشاهد الفيلم اللطيفة التي تجنب "إسرائيل" ذاتها كل ألوان الصراع، ولا تعتبرها جزءًا من أجزائه المتكاملة.
يتبع.