"مراسلات حساسة" "سلاح استراتيجي" .. "غرفة مظلمة" و"كرسي متحرك" و"ورَجل مبتور اليد والرِجل" و"سلاح" .. هكذا بدأ فيلم "الظلّ" الذي يحكي قصة الشهيد القائد نصر جرار القائد في كتائب القسام بمدينة جنين خلال تسعينيات القرن الماضي، ومطلع انتفاضة الأقصى.
والفيلم المعنون بـ "الظلّ" من سيناريو وإخراج حمودة صلاح، وقد بلغت مدته 45:18 دقيقةً، واتخذ لون "ديكو دراما" في معالجة القصة، وهو أسلوب يعني "التوثيق الدرامي" أو "الدراما التوثيقية"، معتمدًا على التعليق الصوتي أسلوبًا رئيسيًا في دفع عجلة الفيلم من البداية حتى النهاية، وبممثل رئيسي واحد، وقرابة 15 ممثلًا ثانويًا أدوا أدوارًا قصيرةً جدًا.
وقد أجاد الفيلم استغلال القدرات المتاحة رغم قلة الإمكانيات، فقلّص من المهام الدرامية داخل الفيلم واعتمد على حوارات بسيطة لا تُظهِر الضعف الذي قد يعاني منه الممثلون نتيجة كونهم أقرب إلى الهواة منهم إلى عالم الاحتراف، فلم يلجأ الفيلم للحوار سوى في خمسة مشاهد تكلّم خلالها البطل 12 جملةً فقط، ولعل هذا يكون من عوامل قوة الفيلم.
بدأ الفيلم في أول دقيقتين بشكل يناسب العنوان الذي أُطلق عليه: "الظلّ"، حيث الغرفة المظلمة والمراسلات السرّية والتصوير المنخفض الغامض، ليثير في المُشاهد الذي يباشر مشاهدة الفيلم دون أن يقرأ نصًا تعريفيًا عنه، تساؤلات من قبيل: عن ماذا يتحدث الفيلم؟ ومن هو هذا المُقعد صاحب الرجل واليد المقطوعتين؟
لكن الفيلم سرعان ما يكشف عن شخصية "رجل الظلّ" الذي يروي حكايته، عبر صورة على الحائط للشهيد نصر جرار وابنه الشهيد أحمد، خصوصًا لدى من يعرفون أنه كان مبتور اليد والقدم، لكن الحكاية تستمرّ أكثر إثارةً وتشويقًا لمن سيتعرف على الشهيد لأوّل مرّة من خلال هذا الفيلم، وذلك أنّ الحائط يعرض صورًا أخرى أبرزها صورة الأسيرة المحررة أحلام التميمي.
وقد أحسن المخرج صنعًا باختيار ممثل صاحب بشرة تميل إلى اللون الأشقر لتجسيد شخصية جرار، إضافةً إلى أخذ بعض اللقطات من جبال الضفة –ربما تكون لقطات مقتبسة من عملٍ آخر- على الرغم من أن العمل قد صُوِّرَ وأنتج في مدينة غزة، إلا أن هذه اللقطات أضفت إلى العمل روح المكان الذي قضى الشهيد معظم حياته فيه.
رسالة الوحدة
لم يتأخر الفيلم كثيرًا في إرسال أولى رسائله، وربما لتبيان أهمية هذه الرسالة اختار المخرج وضعها في مقدمة الفيلم، عبر برواز معلق على الحائط يحتوي صور عدد من الشهداء وهم: الشهيد محمود طوالبة القائد في سرايا القدس، والشهيد قيس عدوان القائد في كتائب القسام، والشهيد زياد العامر القائد في كتائب شهداء الأقصى، وكذلك الشهيد يوسف ريحان "أبو جندل" الملازم في الأجهزة الأمنية الفلسطينية والقائد الميداني الذي استشهد في معركة مخيم جنين عام 2002، وفي أسفل هذا البرواز نصّ: "قادة عمّقوا الوحدة بالدمّ"، ولعل المخرج أراد من هذا المشهد التأكيد على وحدة الدم في مخيم جنين بالماضي والحاضر، حيث يشهد المخيم مؤخرًا حالةً من المقاومة الموحدة بين جميع فصائل المقاومة.
جنين .. رأس الحربة
لعب "الناريشين" (التعليق الصوتي) دورًا مميزًا في إيصال رسائل الفيلم وتحقيق أهدافه، والتي كانت إحداها –كما أرى- دفع الحالة المقاومة في جنين عبر إبراز بطولاتها على مدار التاريخ، فحمل النصّ العديد من العبارات مثل: "بصمة جنين حاضرة مثل كلّ مرة"، في معرض الحديث عن تحقيقات الشاباك حول عملية رائد زكارنة الاستشهادية في العفولة، و"مدينة لم تستسلم لأيّ محتل منذ القدم"، و"رأس الحربة في مثلث الرعب للكيان"، ولربما أتجرأ قليلًا وأقول إن النصّ قال "مدينة لم تستسلم لأيّ محتل" لكن صانع الفيلم أراد أن يقول: "مدينة لن تستسلم"، في وقت تعاني فيه جنين من هجمات الاحتلال المتتالية من أجل القضاء على المقاومة فيها، والتي تطوّرت ونضجت بشكلٍ كبير، خاصةً خلال السنة الماضية لتشكّل مرةً أخرى "رأس الحربة في مثلث الرعب للكيان".
"خريطة منقوصة" و"تنسيق متوقف"
هكذا عرض الفيلم مقر الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية خلال عملها على تفكيك لغز "الظلّ"، وقد حمل المشهد الذي استمر لمدة "85 ثانيةً" العديد من الرسائل، حيث يرتدي الضابط نظارةً شمسيةً سوداء داخل الغرفة، ويلتهم سيجارةً تتلوها سيجارة. الرسالة الأولى حملتها خارطة فلسطين المنقوصة المعلقة على الحائط داخل المقر، والتي تعرض الضفة وغزة فقط بوصفهما كيانًا منفصلًا عن امتداد فلسطين التاريخية، وهذه هي المناطق التي تطالب بها السلطة الفلسطينية لتقيم عليها الدولة، في وقت يعرض الفيلم عمليات المقاومة وفي مقدمتها كتائب القسام في الداخل المحتلّ الذي لا يظهر في خريطة السلطة المعلّقة على الحائط.
وأما الرسالة الثانية فهي عرض محاولات السلطة الوصول إلى قادة المقاومة واعتقالهم في وقت يذكر فيه التعليق الصوتي أن "التنسيق الأمني متوقف"، وقد صدر الفيلم كذلك في وقت أعلنت فيه السلطة وقف التنسيق الأمني، وهذا يعني أن المخرج أراد القول إن مجرد الإعلان عن وقف التنسيق لا يكفي لتحقق الوقف هذا في الواقع فعلاً.
وعلى مدار 17 دقيقةً و 20 ثانيةً منذ انطلاقة الفيلم لم يصرح باسم "رجل الظلّ" الذي يتحدث عنه سوى بالتلميح، بينما ترك مهمة التصريح باسمه وكشفه للمشاهد لضابط الأجهزة الأمنية، في رسالة تخاطب العقل الباطن للجالس خلف الشاشة أن رجال الظلّ لا ينكشفون للعدوّ ولا للناس، إلا إذا تلقوا الضربة القريبة.
"تمرات الإفطار" .. فرقٌ بين النهج وبين الأفراد
عرض الفيلم مشاهد تمثيليةً لاستشهاد مجموعة من أفراد الأمن الوطني في رمضان 2001 بمدينة جنين بعد استهدافهم بقذيفة مدفعية وهم يستعدون لتناول طعام الإفطار، ويظهر في خلفية المشهد صوت أذان المغرب.
ليس صدفةً عرض شهداء الأجهزة الأمنية بهذا الشكل من الالتزام في المشهد التالي مباشرةً لمشهد مقر الأجهزة ذاتها التي تبحث عن المقاومين، وكأن الفيلم يقول إن العداء يكون للنهج المحارب للمقاومة، لكن العديد من الأفراد لا ينطبق عليهم الحال ضرورةً، فكثيرٌ منهم قدموا أرواحهم لأجل الوطن، وما زال هناك العديد منهم أيضًا يُكملون مسيرة القائد في الأجهزة الأمنية "أبو جندل" الذي عرض الفيلم صورته في المقدمة. فأظهر الفيلم ابتعادًا عن نهج التحريض والتشويه الذي يراه غير مفيدٍ، وأظهر كذلك تفريقًا بين رفض النهج وطبيعة النظرة إلى الأفراد الذين يتّصفون في المشهد بالالتزام الديني، والذين يقعون تحت استهداف الاحتلال. في رسالة جديدةٍ تقول: "كل فلسطيني مستهدف، فلنتوّحد ضد الاحتلال".
"الحر لا يسلِّم سلاحه حتى ولو كان على أعتاب الموت"
هكذا يقول الفيلم في حديثه عن نصر جرار الذي انشطر جسده نتيجة انفجار عبوة ناسفة كان يعدّها، لكنه انشغل عن جسده بمحاولات إخفاء مسدّسه حتى لا يصل الاحتلال إليه. الأمر ذاته تكرر خلال الفترة الماضية في جنين وكتيبتها ومقاوميها، ونابلس وعرين أسودها، من انفجارات عرَضية أثناء الإعداد والتصنيع أصابت عددًا من المقاومين إصابات بليغةً، وسط دعوات من بعض الجهات لهم ولغيرهم لتسليم سلاحهم مقابل العفو، فيعيد الفيلم حكاية الشهيد نصر جرار مع سلاحه ليقول لهم: "الحر لا يسلِّم سلاحه حتى ولو كان على أعتاب الموت".
"المراسلات الحساسة" و"السلاح الاستراتيجي"
بعد 31 دقيقةً على بدايته، كشف الفيلم عن أن السلاح الاستراتيجي الذي ابتدأ به الفيلم هو "صاروخ القسام 2" الذي كان الشهيد نصر جرار يحاول تطويره في الضفة بالتعاون مع قيادة القسام في غزة، ولعل مضي أكثر من ثلثي الفيلم دون الكشف عن "ما هو السلاح الاستراتيجي؟" الذي سيغير المعادلة، كما ظهر في بداية الفيلم، يعد من عوامل الجذب والاستمرار في المشاهدة، إذ إن المشاهد منذ لحظة قراءته لكلمات مثل "مراسلات حساسة" و"سلاح استراتيجي" و"سيغير المعادلة"، تتولد في عقله العديد من الأسئلة، ويدفعه الفضول لمشاهدة بقية أجزاء الفيلم حتى يكتشف هذا اللغز.
ما يزال في جعبته الكثير: نهاية مفتوحة
لم يعرض الفيلم أهم حدث –ربما- بالنسبة للمتابع، وهو مشهد النهاية واستشهاد نصر جرار، حيث أراد المخرج أن تكون النهاية مفتوحةً تحمل رسالة أن آل جرار، والمقاومين السائرين على نهج الشهيد، ما يزال في جعبتهم الكثير، وأن حكايا بطولاتهم لا تنتهي بالاستشهاد، إذ إن فصل الشهادة بالنسبة لهم يشبه مشهد "وضع رصاصة على النافذة" كما في لقطة الختام، ليأتي من بعد الشهيد نصر ابنه أحمد ليستلمها وينفذ بها عملية يقتل مستوطن قرب نابلس ويستشهد على أرض جنين كما والده.
يمكن القول إن أهم ما غاب عن الفيلم هو استخدام مشاهد حقيقية للشهيد نصر جرار، إذ كان من الأوْلى وجود فيديوهات توثيقية، كون هذا الأسلوب تتبعه كتائب القسام لجميع أفرادها وقادتها منذ تأسيسها، وهو ما كان سيزيد من "توثيقية" الفيلم.
أمر آخر ربما كان من الممكن إضافته، وهو مشهد قصير يوثّق عملية أحمد نجل الشهيد نصر جرار، واشتباكه الأخير الذي استشهد فيه، وهو ما كان سيسَّهل على المخرج إيصال رسالة "ميراث المقاومة والشهادة"، بشكل مباشر وسريع إلى عقول المشاهدين، إضافةً إلى الحديث عن العائلة وعن الزوجة مع استخدام مقاطع لها من لحظات استشهاد نجلها أحمد وتشييعه، والتركيز على نشاطها الكبير بعد استشهاده مع عائلات الشهداء، ولعلّ ذلك كان سيضيف لمسةً اجتماعيةً على الفيلم، وسيعطي المشاهد أحد مفاتيح هذه العائلة التي قالت عنها لقطة الختام "ما يزال في جعبتها الكثير".
المصدر: إطار