شبكة قدس الإخبارية

في الذكرى الخامسة والثلاثين للشهادة

2_1423853989_2868
زياد ابحيص

كانت الساعة قد تخطت الواحدة ظهراً في مثل هذا اليوم من عام 1988 حينما ورد الاتصال الذي غيّر مجرى حياتنا وحياة الكثيرين: أبو حسن استشهد، ومعه رفيق دربه حمدي التميمي ورفيق تجربة الكتيبة الطلابية والحرب الدامية في لبنان مروان الكيالي. 

مضوا إلى ربهم شهداء كما تمنوا، لكن وقع الخبر كان كالصاعقة على معظم من عرفوهم، فرحيلهم معاً كان يهدد بنهاية هذه التجربة الاستثنائية التي كانت قد أكملت خمسة عشر عاماً من مسيرتها، منذ أن بدأت تتبرعم في محيط جامعة بيروت العربية في عام 1973، خصوصاً وأن أحد رجال هذه التجربة الاستثنائية –الشهيد علي أبو طوق- كان قد سبقهم إلى ربه قبل عام وثلاثة أسابيع بالضبط في مخيم شاتيلا، باذلاً حياته في سبيل استعادة حضور المقـاومة لضرب خطوط العدو الصهيوني التي باتت تحتل نحو نصف مساحة لبنان، بينما كانوا هم يقرعون باب المستحيل لإعادة المقـاومة إلى الداخل المحتل بعد أن فقدت آخر قلاعها خارج الأرض المحتلة، وبعد أن فقدت الغطاء العربي بخروج مصر من الصراع ومضيها في خط كامب ديفيد الكارثي.

لا تستطيع الكلمات الجامدة أن تعبر عن ما كان في هذه التجربة الفريدة من حيوية وحركة وروح متوثبة؛ تبحث عن الشقوق والمساحات لتقطفها رغم كل الاختلال في موازين القوى. أبو حسن قاسم كما يعرفه رفاقه، محمد محمد ابحيص كما هو في أوراقه الثبوتية، مضى إلى ربه ولم يكمل عامه الرابع والأربعين. واليوم إذ أصل هذا العمر، أُدرك أن ما أنجزه مع رفاقه كان ضرباً من المستحيل. 

لم تكن هناك ساحة مواجهة مع العدو عاشها ولم تعرفه كأحد رجالها؛ واليوم بعد أن قرأت وسمعت كثيراً من حصيلة رفاقه أتساءل حقاً من أين كان يأتي بالوقت والطاقة واتقاد الفكر الذي يجعل كل حركة محسوبة رغم كل هذا الضغط.

في بيروت الغربية كان أحد اثنين افتتحا استعصاء بيروت الغربية على وحدات الجيش الانعزالية التي كانت تريد فرض إرادتها على الصف الفلسطيني والوطني اللبناني، ثم كان من بين كوكبة أرست قواعد السرية الطلابية ثم الكتيبة، وفي محاور الحرب الأهلية في الدكوانة والبرجاوي ثم في جبل لبنان إذ كانوا مضطرين للدفاع عن خطٍّ سياسي وسلاحٍ يتطلع إلى المضي إلى جنوب لبنان. 

لم يطُل الزمن حتى كان هذا السلاح في مارون الراس وبنت جبيل وقلعة الشقيف ثم في محور الجامعة العربية يتصدى لاجتياح 1982، ومن بعد الاحتلال الصهيوني بقي حاضراً في الدوريات والعمليات خلف خطوط العدو. جولاتٌ خاضها أبو حسن مع رفاق له لم يقلوا عنه في كل هذه الصفات، فجددوا في قلعة الشقيف مآثر جيش صلاح الدين الأيوبي.

مع توجه مصر نحو الخروج من الصراع كانوا يعلمون أن حرب تصفيتهم باتت مسألةَ وقت، وأن السؤال عن حصولها يبدأ بـ "متى" وليس بـ "هل". وبينما كانت قيادة منظمة التحرير تتجه تحت الكي والضربات وتطلعات الكيانية نحو سقف التفاوض؛ كان هو ورفاقه يدركون أن مخرجهم الاستراتيجي هو بإعادة المقاومة إلى الداخل الفلسطيني.

مجموعات مسلحة مكتفية ذاتياً في رؤوس جبال الضفة الغربية، هذا كان الهدف الاستراتيجي؛ استعادةً لتجربة 1936 في الوعي والفعل الفلسطيني، فهي ثورتنا الكبرى التي ستبقى ملهمة على مر الزمن، وأهازيجها لم تكن تفارق سياراتهم وهم يعملون على هذا الهدف، فلم يكونوا لينتقلوا عنها إلا لسماع نشرة أخبار. 

كان القطاف في عمليات الدبويا والتياسير ثم بباكورة عمليات تفجير الباصات بالباص رقم 18 في #القدس وبعملية باب المغاربة التي أذلت كتيبة النخبة "جفعاتي"؛ وأخيراً بمحاولة المـ.جـ.اهدة عطاف عليان تـ.ـفـ.ـجـ.ـير مبنى رئاسة الوزراء أثناء انعقاد الحكومة الصهيونية، وهي التي وضعتهم على رأس قائمة المطلوبين للموساد عبر العالم، إلا أن هذا لم يمنعهم من الاتصال بمجموعة الشهيد مصباح الصوري وامدادها بالسلاح بعد أن تمكنت من الهروب من سجن السرايا في غزة لتشكل اشتباكاتها المقدمة العسكرية الأولى للانتفاضة الأولى في شهر 10-1987.

هذا كله جاء وسط الملاحقة الأمنية العربية، إذ عاش متخفياً في الأردن لمعظم الوقت منذ عام 1984 فبالكاد يمكننا أن نتذكر اللمحات القليلة التي عشناها معه نحن أولاده، ومن بعدها كانت أقبية فرع فلسطين في سورية بانتظاره في 1986 حيث تعرض لتعذيب شديد وفرضت عليه من بعدها الإقامة الجبرية لنحو ثلاثة أشهر. شهور قليلة عاد فيها للنشاط الدؤوب قبل يلقى ربه في تفجيرٍ لم يخفي الموساد الصهيوني سعادته به أو مسؤوليته عنه. 

لم يكن أبو حسن وحيداً في تفانيه وإمكاناته وتجربته، بل هو واحد من كوكبة استثنائية من خيرة الخيرة قدمتهم هذه الأمة على طريق استعادة فلسطين وضرب المشروع الاستعماري الغربي فيها، فقاتلوه بكل ما أوتوا من تخطيط وعزم وقوة وصبر في ذروة علوه.

الثأر لهؤلاء الأفذاذ لا يمكن أن تعدله الأرقام ولا الرُّتب؛ فثأرنا الحقيقي يمكن أن يتحقق في مشهد واحد فقط: حين تستحيل آخر مستوطنة صهيونية على أرض فلسطين غباراً تذروه الرياح، عندها فقط نكون قد بدأنا بانتزاع العدالة الناجزة.

#مروان_الكيالي #حمدي_التميمي #أبوحسن_قاسم