على أثر المجزرة الإجرامية التي ارتكبتها دبابات الاحتلال في مخيّم جنين، تداعت قيادة السلطة لاجتماع طارئ للتباحث في سبل الرد على التصعيد الصهيوني المتواصل، نتج عنه الإعلان عن سلسلة من القرارات كان أهمها اعتبار السلطة أنّ التنسيق الأمني مع حكومة الاحتلال “لم يعد قائما”. القرارات تمّ الإعلان عنها في مؤتمر صحفي شارك فيه أعضاء من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بالإضافة لنائب رئيس حركة فتح محمود العالول، وألقاه الناطق باسم الرئاسة نبيل أبو ردينة.
كان واضحاً أنّ القرارات لم تكن وليدة اللحظة، إذ أنّها لم تأتِ رداً على المجزرة الصهيونية في مخيّم جنين، وإن كانت المجزرة الحدث المُحرّك الذي بحثت عنه “القيادة الرسمية” للخروج بجملة القرارات التي أعلنتها. فحسب البيان، تأتي القرارات رداً على ما أعلنت عنه حكومة الاحتلال المتطرفة من خطط وسياسات بدأت بتنفيذها على الأرض، بما يشمل جرائم التطهير العرقي والتمييز العنصري، ومواصلة الاعتداءات على مدينة القدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية، واستباحة المسجد الأقصى، وتكثيف عمليات الاستيطان، وضم الأراضي، وهدم المنازل، واحتجاز جثامين الشهداء، وحجز أموال الضرائب الفلسطينية.
الموقف الأمريكي المخيّب للآمال
خيبة الأمل لدى السلطة من نتائج زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان وسعيه لإيجاد أرضية تفاهم ما بين الإدارة الأمريكية وحكومة “نتنياهو” المتطرفة، تحضيراً لزيارة وزير الخارجية الأمريكي “أنطوني بلينكن” للمنطقة، كانت سبباً رئيسياً من الأسباب غير المُعلنة التي دفعت السلطة لإعلان قراراتها.
فعليا، سعت السلطة لاتخاذ خطوات تستبق وصول الوزير الأمريكي الذي حمل معه في زيارته للأراضي المحتلة دعوات التهدئة وخفض التوتر، وجهّزت قبيل وصوله بساعات قائمة بمطالبها المتمثّلة بوقف الإجراءات أحادية الجانب “الإسرائيلية”، وقف خطط الترويج للبناء الاستيطاني في الضفة الغربية، وقف اقتحامات جيش الاحتلال للمدن الفلسطينية، لجم اعتداءات وعنف المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، إلغاء العقوبات التي أعلنها “الكابينيت”، بما في ذلك اقتطاع أموال الضرائب، وتقديم أفق سياسي لحل النزاع.
بالمقابل لم يُقدم وزير الخارجية الأمريكي للسلطة أي جديد، سوى دعوات التهدئة، ووعود حياتية تتكرر منذ دخول “بايدن” للمكتب البيضاوي في البيت الأبيض، حول دعم حلّ الدولتين واستئناف الدعم للسلطة، و”دراسة” إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس، إضافة لإطلاق خدمة الـ(4G) في الأراضي الفلسطينية المحتلة!.
ما قدّمه “بلينكن” ليس سوى المزيد من ذرّ الرماد في العيون، ففي الواقع إنّ الإدارة الأمريكية لا تريد سوى الهدوء في المنطقة ونزع أي فتيل للإنفجار يمكن أن يشتتها عن التفرغ لملفاتها الاستراتيجية، وفي المقدمة منها الحرب في أوكرانيا ومواجهة روسيا، إضافة للتصدي للنفوذ الصيني المتسارع، إضافة لمواجهة تنامي نفوذ إيران وإجهاض برنامجها النووي.
الهروب باتجاه التكتيك والرهانات الخاسرة
عكست المطالب التي وضعتها قيادة السلطة على الطاولة مع وزير الخارجية الأمريكية حقيقة واضحة، وهي أنّ القرارات الأخيرة تأتي في إطار التكتيك والتحريك لتحقيق ضغط على حكومة الاحتلال وفرمتة جزء من اندفاعتها، وتأكيداً على التمسك بذات النهج السابق المُراهن على الحل التفاوضي، والموقف الأمريكي.
وهو ما أكده رئيس السلطة خلال لقائه بلينكن، عبر إعلانه التمسك بالحل السلمي وتكرار الحديث عن “نبذ العنف والإرهاب” والتمسك بما يُسمى “مبادرة السلام العربية” والاستعداد للعودة للـ”المسار السياسي” في حال إيقاف حكومة الاحتلال لإجراءاتها الحالية!.
ما زالت قيادة السلطة تتهرب من استحقاق الواقع، الذي يتطلب التوجه الجاد والحقيقي نحو اشتقاق استراتيجية وطنية للمواجهة تغادر كل مربعات الرهانات الفاشلة على حلول لم تعد تُسمن ولا تُغني من جوع، وأثبت الزمن والواقع أنّ كل أفق لها قد انتهى، والرهان عليها هو مجرد ضرب من الخيال والانفصام عن الواقع.
في الوقت الذي تُسارع فيه حكومة الاحتلال الفاشية المتطرفة إلى اتخاذ خطوات متلاحقة في ابتلاع الأرض وانتهاك كل الخطوط الحمراء والاعتداء على البشر والحجر والشجر، وملاحقة حتى العلم الفلسطيني، والسعي لإعدام الأسرى وترحيل المناضلين وإبعادهم، لم يعد مقبولاً أن يبقى المشهد الفلسطيني متشرذما، ورهينة للحسابات الضيقة، أو التمسك بأوهام الحل السلمي وبقايا اتفاق أوسلو.
المطلوب وطنيا، استراتيجية للمواجهة
المطلوب وطنياً اليوم، هو البناء الحقيقي على ما تمّ اتخاذه من خطوات وتحويلها من كونها خيارات تكتيكية إلى خطوات استراتيجية تبدأ أولاً في التحلل الواضح والصريح من اتفاق أوسلو وكل التزاماته السياسية والأمنية والاقتصادية، وسحب الاعتراف بكيان الاحتلال، وتجنيد السلطة ومقدراتها في إطار خطة وطنية حقيقية للمواجهة ودعم صمود المواطنين في وجه الهجمة الصهيونية.
ثانيا، كف يد الأجهزة الأمنية عن أبناء شعبها، وتجريم الاعتقال السياسي، وإطلاق سراح كل المعتقلين على خلفية الانتماء والموقف السياسي، وفي مقدمتهم المقاومين الذين يقبعون رهينة الاعتقال في سجون السلطة.
ثالثا، عقد الاجتماع القيادي وتفعيل صيغة الأمناء العامون كإطار قيادي مؤقت يتولى توحيد الصف الفلسطيني وترتيب أوضاع المؤسسات التمثيلية للشعب الفلسطيني على قاعدة لمّ الشمل والوحدة الوطنية.
رابعا، إطلاق القيادة الموحدة للمقاومة الشاملة ببرنامج مواجهة يتضمن مهمات لكل تجمعات الشعب الفلسطيني في إطار معركة موحدة لمواجهة مخطط التصفية الصهيوني وخطط ابتلاع الأرض والتهجير والقتل لشعبنا.
إنّ هذه الخطوات هي البداية الجدية والحقيقية لمواجهة المخططات الصهيونية، والتدشين الفعلي لدرب يمكنه أن يحوّل التحدي الذي تمثّله حكومة الفاشيين الصهاينة، إلى الفرصة الذهبية لاستعادة المشروع الوطني الفلسطيني لزخمه وقوته، في إطار توحُّد الجميع ضمن استراتيجية مواجهة وطنية شاملة، تستمر اللحظة التاريخية السانحة والتغييرات الدولية المتسارعة بما يخدم قضيتنا وشعبنا الفلسطيني.