على إثر النجاح الفلسطيني في انتزاع قرار في الأمم المتحدة لطلب فتوى من محكمة العدل الدولية بشأن الاحتلال "الإسرائيلي" للضفة الغربية، اتَّخَذَ "الكابينت" السياسي والأمني لدولة الاحتلال في أول اجتماع له بعد تشكيل الحكومة الجديدة سلسلةَ عقوباتٍ ضد السلطة الفلسطينية.
وبحسب ما أُعلِن في وسائل الإعلام العبرية، فقد تنوعت العقوبات ما بين العقوبات المالية وسحب الامتيازات، والتي كان أبرزها قرصنة وسرقة 139 مليون شيقل من أموال الضرائب، بادعاء تحويلها إلى المستوطنين المتضررين من العمليات الفدائية الفلسطينية، إضافةً إلى حسم جزء من الأموال الفلسطينية مقابل المخصصات التي تدفعها السلطة الفلسطينية للشهداء والأسرى وعوائلهم.
إضافةً إلى ما سبق، تنص العقوبات أيضًا على قرار تجميد مخططات البناء الفلسطينية في مناطق "ج" (وفقًا لاتفاق "أوسلو") في الضفة الغربية، وإلغاء امتيازات وسحب بطاقات الشخصيات المهمة "VIP"، وهي تستهدف الناشطين استهدافًا مباشرًا في المعركة القانونية-السياسية الفلسطينية ضد الاحتلال "الإسرائيلي".
لم تتوقف العقوبات على هيئات ومؤسسات السلطة الرسمية، بل توسعت وصولًا لاستكمال هجمة ضد المؤسسات الأهلية الفلسطينية، إذ تنص العقوبات على اتخاذ خطوات ضد منظمات المجتمع المدني الفلسطينية الناشطة في الضفة الغربية المحتلة، التي يدَّعي الاحتلال أنها تنشط أو تدعم أنشطةً معاديةً للاحتلال، بما فيها نشاطات سياسية وقانونية توثِّق الجرائم والانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني.
استثنت عقوبات الاحتلال كلًّا من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حسين الشيخ، وقادة الأجهزة الأمنية، وهو استثناء هدفه بحسب الإعلام العبري الحفاظُ على التعاون الأمني بين جيش الاحتلال وتلك الأجهزة، وعدم السماح بانهيار السلطة الفلسطينية.
هل تريد "إسرائيل" القضاء على السلطة؟
على الرغم من أن برامج بعض المكونات اليمينية الفاشية ينص صراحةً على ضرورة القضاء على أي تمثيل سياسي أو إداري للفلسطينيين كوحدة واحدة، إلا أن الحكومة الصهيونية الحالية لم تتبنَّ التوجُّه إلى تصفية وجود السلطة والقضاء عليها.
لا يمثِّل اللجوء لخطوات عقابية من قِبل "إسرائيل" ضد السلطة الفلسطينية، خاصةً سحب الامتيازات وقرصنة الأموال، سلوكًا جديدًا، بل إنه سلوك انتهجته الحكومات المتعاقبة منذ توجُّه السلطة الفلسطينية إلى المؤسسات الدولية لملاحَقة الاحتلال، وتصاعَدَ تصاعدًا كبيرًا في فترة رئاسة الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب"، الذي اتَّخَذ خطواتٍ عقابيةً موازيةً للضغط على السلطة لقبول صفقة القرن.
لا يريد "بشكل فعلي" أيُّ مكونٍ من مكونات المستوى السياسي في دولة الاحتلال "حاليًّا" الذهابَ إلى خطواتٍ بهدف القضاء على السلطة وإنهاء وجودها، بل المطلوب "تقويم" سلوك السلطة وفق المعايير الصهيونية، وأن تبْقَى هذه السلطة ملتزمةً بدورها الأمني الذي نظمته التزامات اتفاق "أوسلو" الأمنية، والحفاظ على التنسيق الأمني، مقابل بعض التسهيلات الحياتية والاقتصادية وهوامش صغيرة جدًّا من الإدارة الذاتية في تفاصيل إدارة شؤون السكان.
ولهذا، وتزامنًا مع فرضها للعقوبات، أبلغت سلطاتُ الاحتلالِ مسبقًا قيادةَ السلطةَ الفلسطينيةَ بالخطوات، وحافظت على استثناءِ أكثرِ الشخصياتِ تأثيرًا من العقوبات، بما فيهم قادة الأجهزة الأمنية والأركان الرئيسية للسلطة، في رسالة تهدف إلى تأكيد تمسُّكها بالدور "الثمين" للسلطة المتمثِّل بالالتزامات الأمنية، دون قبول أي تحرك خارج الهامش المحدد لحركة السلطة وهيئاتها.
أثر التحالف الحكومي الفاشي على تصعيد العقوبات..
في واقع الأمر، وعلى الرغم من أن سياسة العقوبات ليست جديدة، إلا أن طبيعة صياغة العقوبات وبعض الإضافات عليها تَحمِل بصماتِ أحزابِ التحالف، خاصةً وزير المالية اليميني المتطرف "سموتريتش" الذي أعلن أن العقوبات التي أقرَّها "الكابينت" لن تكون سوى البداية!
"سموتريتش"، الذي لا يُخفي توجُّهه نحو شرعنة البؤر الاستيطانية وفرض السيادة على المستوطنات وسعيه لتفكيك السلطة على أساس أنها كيان يعمل على منح الفلسطينيين في الضفة هويةً سياسية، أعلن بوضوح أن أحد أهم أهدافه في الائتلاف الحكومي الحالي وقفُ البناء الفلسطيني في مناطق "ج" في مقابل تقديم كل التسهيلات اللازمة للتوسع الاستيطاني وشرعنة البؤر الاستيطانية وإعلان الضم في أراضي الضفة الغربية، وقد انعكس هذا الموقف على إضافة بند خاص بالبناء على مناطق "ج" ضمن حزمة العقوبات التي استهدفت الفلسطينيين.
فيما واصَلَ "نتنياهو" تبنِّي سياسةً اشتقَّها حديثًا وزيرُ الحرب السابق "بيني غانتس" بملاحقةِ مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني الناشطة في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، وعَدِّها مؤسساتٍ معادية، ضمن نهجٍ لفصل هذه المؤسسات عن أي دور وطني في مواجهة الاحتلال.
أهمية الخطوات الفلسطينية..
التحرك الفلسطيني في المؤسسات الدولية، الساعي لملاحَقة الاحتلال والعمل على عزله ومواجهته في المحافل الدولية، بدأ يأخذ منحى أكثر جدية وتأثيرًا في السنوات الأخيرة، خصوصًا مع تكلُّله بالقرار الأخير للأمم المتحدة بطلب فتوى من محكمة العدل الدولية.
تضمَّن القرار فقرةً (الفقرة 18) تطلب من محكمة العدل الدولية إصدار فتوى قانونية، وفقًا لنص المادة (96) من ميثاق الأمم المتحدة، عن قضايا صيغت في سؤالَين محدَّدين على المحكمة أن تجيب عنهما تفصيلًا:
ما الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك "إسرائيل" المستمرِّ لحقِّ الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 واستيطانها وضمِّها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافي لمدينة القدس وطابعها ووضعها، وعن اعتمادها تشريعاتٍ وتدابيرَ تمييزيةً في هذا الشأن؟ كيف تؤثر سياسات "إسرائيل" وممارساتها الناجمة عن هذه الانتهاكات على الوضع القانوني للاحتلال، وما الآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول وكذلك بالنسبة للأمم المتحدة؟
الفتوى الجديدة المتوقع صدورها من محكمة العدل الدولية ستؤكِّد أن السياسات "الإسرائيلية" في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير مشروعة، تنتهك القانون الدولي وتعتدي على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حق تقرير المصير. صحيحٌ أن هذه الفتوى مجرَّد "رأي استشاري" وليست مُلزِمة، إلا أنها تَفتَح آفاقًا جديدةً لملاحَقة "إسرائيل" في العديد من المحافل الدولية بما فيها محكمة الجنايات الدولية، وتَفتَح المجال لتقديم مشاريع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة تطالب مجلس الأمن بفرض عقوبات على "إسرائيل".
من جانب آخَر، فإن فتوى محكمة العدل الدولية ستعطي مجالًا أوسَع للتحرك للحملات والنشاطات الداعية لتصعيدِ مقاطعةِ "إسرائيل" والعملِ على عزلها اقتصاديًّا وثقافيًّا وسياسيًّا، ما سيشكِّل داعمًا في وجه حملات الملاحَقة والمحاصَرة لحملة المقاطَعة الدولية "BDS" التي تستهدفها "إسرائيل" بدعوى "معاداة السامية".
المطلوب فلسطينيًّا للمواجهة..
في وجه الهجمة "الإسرائيلية" المتصاعدة، والحكومة اليمينية الفاشية، المطلوبُ من الفلسطينيين إجمالًا التوافقُ على برنامج وطني شامل للمواجهة، والتصدي للإجراءات الصهيونية والمحاولات التصفوية المتصاعدة.
في الإطار ذاته، فإن القيادة الفلسطينية الرسمية مطالَبةٌ باستخلاص العِبَر من سلوك الاحتلال ومغادَرة مربَّع الرهانات الخاسرة على مشروعٍ داسته ومزَّقته الدبابات الصهيونية وأكَلَه التوسع الاستيطاني على الأرض، بما يُعدِم أي فرصة حقيقية وفعلية لحل "الدولتين" وأوهام اتفاق "أوسلو" والتزاماته السياسية والأمنية والاقتصادية.
استكمال التحرك الدولي واستثمار قرارات المؤسسات الدولية، وفي المقدمة منها الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، يتطلبان برنامجًا فاعلًا وحقيقيًّا يبدأ من ملاحَقة قادة الاحتلال في محكمة الجنايات الدولية، وإعادة النظر في مدى جدوى وجدية وفعالية البعثات الدبلوماسية الفلسطينية في العالم، وإصلاح السلك الدبلوماسي وتحصينه ليكون قادرًا على مواكَبة حجم التحديات والتضحيات التي يقدِّمها الشعب الفلسطيني.
في الإطار ذاته، فإن الأزمة الروسية-الأوكرانية والموقف الدولي المنحاز، الذي عمل على شرعنة ما سمِّي بـ"المقاومة الأوكرانية"، يفتحان الأفق واسعًا لوجود إمكانية حقيقة ومهمة لتبنِّي استراتيجية دبلوماسية تعمل على شرعنة المقاومة الفلسطينية بكل أشكالها بما فيها المسلحة، والعمل الجاد في المحافل الدولية لإيقاف وصمِها بالـ"الإرهاب"، على أساس أنها مقاوَمة مشروعة ووفق القانون الدولي للتصدي لاحتلال استعماري توسُّعي يقضم الأرض ويرتكب الجرائم يوميًّا ويمارس جرائم تطهير عرقي بحق المواطنين أصحاب الأرض، وذلك بشهادة كل مؤسسات العدل والمحاكم الدولية.