صبيحة الثالث من كانون الثاني/ يناير من العام الحالي، اقتحم وزير الأمن القومي الصهيوني “إيتمار بن غفير” باحات المسجد الأقصى بحماية مشددة من شرطة الاحتلال.
هذا الاقتحام هو الأول للمتطرف “بن غفير” وهو وزير في حكومة الاحتلال، والأول لشخصية بارزة في كيان الاحتلال في العام 2023، وقد شكّل تحدياً مهماً يعطي صورة مصغّرة عن شكل تعامل الحكومة الحالية مع القضايا الكبرى.
اللجوء للخديعة
أثار الإعلان عن نية “بن غفير” تنفيذ اقتحامه للمسجد الأقصى موجة واسعة من ردود الأفعال الفلسطينية الغاضبة، والدعوات للتحرك للتصدي لهذا الاقتحام، واستذكار للتصدي الفلسطيني الكبير لاقتحام رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق “أرئيل شارون” للمسجد الأقصى والذي نتج عنه انفجار انتفاضة الأقصى بالعام 2000.
لجأ رئيس وزراء الاحتلال “بنيامين نتنياهو” ووزير أمنه القومي “بن غفير” إلى تنفيذ مناورة خداع إعلامي حول السماح وعدمه بالاقتحام، بل وتمّ تسريب خبر لوسائل الإعلام العبرية مفاده أنّ “نتنياهو” طلب تأجيل الاقتحام إلى وقت آخر، وهو ما أكده مقربون من “بن غفير”.
وسائل الإعلام العبرية أكدت أنّ “نتنياهو وبن غفير” قاما بتضليل وسائل الإعلام، ليتضحَ أنّ إتخاذ القرار بالاقتحام قد جرى بمشاركة كل المستويات الأمنية ذات العلاقة بكيان الاحتلال، وبشكل خاص جهازي الشرطة والشاباك، اللذين أوصا بتنفيذ الزيارة وفق التكتيك المخادع المتفق عليه، ووسط حراسة مشددة على “بن غفير”.
قيمة الصورة في وجدان الجمهور الصهيوني
أيقن “بن غفير” أنّ عدم إيفائه بوعده باقتحام الأقصى سيكلّفه كثيراً من رصيده الجماهيري الذي توسّع وتضاعف في الآونة الأخيرة نتيجة إظهاره لنفسه بأنّه يميني جدي ولا يخشى من الإقدام على خطوات تُعتبر “مغامرة”.
حرص “بن غفير” وبتسهيلٍ من “نتنياهو” على الإيفاء بتعهداته الانتخابية باقتحام المسجد الأقصى، حيث كانت الزيارة التي استمرت لمدة 13 دقيقة وفي الصباح الباكر وبدون إعلان مُسبق عن موعدها، كافية ليحصل المتطرف الصهيوني على الصورة التي يريدها.
هذه الصورة التي أراد تثبيتها في وجدان الصهاينة، بأنّ عهد تغيير “المخططات والبرامج” أمام الخشية من ردة الفعل الفلسطينية قد أنتهى، ليثبتَ جديته في اشتقاق مسار خاص، يتميز فيه عن من سبقوه من اليمينيين الذين وصلوا لمقاعد وزارية.
على الجانب الآخر، كانت تقديرات الشاباك التي خلُصت إلى السماح بالزيارة، تستند إلى ضرورة القضاء على الصورة التي حقّقتها مواجهة “سيف القدس” بالعام 2021. الصورة التي يهرب فيها الآلاف من المتطرفين الصهاينة من محيط المسجد الأقصى وشوارع البلدة القديمة بسبب صفارات الإنذار وصواريخ المقاومة، وضرورة استبدال هذه الصورة بصورة لوزير صهيوني يتجول في باحات المسجد الأقصى دون أي رد فعل فلسطيني.
تثبيت كيّ الوعي في الوجدان الفلسطيني
في استخلاصات أجهزة الأمن الصهيوني لنتائج مواجهة معركة “سيف القدس” هناك ثابت أساسي، وهو أنّ صورة “الردع” الصهيونية قد تهشمت بقوة، بسبب فشل الاحتلال بالعام 2021 في تقدير خطوة المقاومة في قطاع غزة، وفي تقدير ردة فعل الجماهير الفلسطينية سواء في القدس أو في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وما تلاه من توسع لحالة الاشتباك المسلح في تشكيلات مقاومة نشأت نواتها الأولى خلال المواجهة.
استخلاص بارز آخر أنتجته “سيف القدس” وهو الحديث الفلسطيني عن ربط الساحات وتكامل الفعل الفلسطيني، وهي استراتيجية خطيرة عمل الاحتلال لسنوات طويلة للقضاء على أي تفكير فيها، وسعى لتثبيت فكرة “الكانتونات” الفلسطينية المعزولة.
هذه الاستخلاصات قد خلُصت إلى ضرورة ترميم معادلة “الردع”، وتفكيك فكرة “وحدة الساحات” في مهدها، وتصعيد خطوات كيّ الوعي وتعزيز الشعور بالهزيمة في وجدان كل فلسطيني، والتي كان أحد أشكالها هو السماح بهذا الاقتحام للوصول لإخراج هذه الصورة.
لم يقف الأمر في كيّ الوعي عند الاقتحام كحدث، بل في المناورة الإعلامية التي شملت حديثاً عن “الرضوخ لتهديدات المقاومة” وما أدى إلى “إلغاء الزيارة” وهو ما خلق شعوراً مؤقتاً بالنشوة لدى الجمهور الفلسطيني وتخليق لحظة عاطفية نتج عنها الحديث عن “انتصارات للمقاومة”، وهو سرعان ما ارتد سلباً بمضاعفة حالة الإحباط الناتجة عن نجاح “بن غفير” في تنفيذ اقتحامه.
الرد الفلسطيني الأجدى
من غير المقبول السماح للمتطرف “بن غفير” ولا لحكومة الاحتلال الفاشية المتطرفة بتحقيق أهدافهم وترميم صورة الردع، وتثبيت الهزيمة في الوعي الفلسطيني، بل الأصل هو تحويل الحدث إلى فرصة يجب استثمارها في التحشيد الكبير لاستعادة زمام مبادرة الفعل الجماهيري.
المطلوب من القوى والفصائل والحراكات الشعبية والمجتمعية الإعداد جيداً للتحشيد الجماهيري الحقيقي لتشكيل طوق حماية بشري للمسجد الأقصى، فاقتحام “بن غفير” ليس نهاية التعديات الصهيونية، بل هو افتتاح لباكورة خطوات في حكومة صهيونية يمينية تضع نُصب عينيها استكمال تهويد المسجد الأقصى والتوسع الاستيطاني في القدس والضفة المحتلة.
وفي إطار المواجهة، يجب تحويل كل هدف للحكومة الصهيونية المتطرفة إلى عنوان للمواجهة والإشتباك، وفي جوهر هذه العناوين يقع قلب الأمة النابض المتمثّل في القدس ومقدساتها، لذلك المطلوب إعادة الاعتبار للحشد الجماهيري في القدس، وتسيير قوافل المرابطين ودعم صمود المقدسيين، والتجهز جيداً للتصدي لمخططات المتطرفين الصهاينة لاستكمال اقتحام وتهويد المسجد الأقصى في نيسان/ أبريل من العام الحالي، والذي يحل في الأسبوع الثالث من شهر رمضان.
إنّ دعم صمود المقدسيين، وتعزيز الحراك الشعبي في القدس، يتطلب إسناداً شعبياً فلسطينياً وعربياً أوسع في إطار تذكير العالم أجمع بقيمة وأهمية القدس كونها العنوان الذي يجمع خلفه ملايين الثوار الجاهزين لقلب كل معادلات المواجهة. وهذا يتطلب جهداً على صعيد الوعي واستنهاض الهمم وخططاً للتحشيد والإنطلاق نحو الميادين.
على الصعيد الآخر، مطلوب الإجابة فلسطينيا: ما المطلوب من تشكيلات المقاومة العسكرية؟، وما هو دورها في إطار الحفاظ على ما حقّقته مواجهة “سيف القدس” وما تلاها؟، بدون أن يُختزل الفعل الفلسطيني في فعلها، فالمعادلة أوسع وأشمل من إقتصار الفعل على مكون واحد من المعادلة الكبرى، والمطلوب كيف تحقّق هذه المعادلة بشموليتها أفضل النتائج بتكامل ساحات وأشكال الفعل الفلسطيني.