مع كل هبة جماهيرية أو شعبية فلسطينية يطفو إلى السطح سؤال كبير حول إمكانية اندلاع انتفاضة جديدة على غرار الانتفاضتين الأولى "الحجارة" والثانية "الأقصى"، وفرص ذلك في ظل الوقت الراهن والتغيرات السياسية التي حصلت.
وأمام هذا السؤال ينشغل الباحثون والمختصون في الشأن السياسي في بحث وقراءة أسباب وعوامل عدم اندلاع انتفاضة جديدة، خصوصًا في ظل الواقع الحالي وعمليات القتل اليومية التي ينفذها جنود الاحتلال وحالة الاشتباك في شمال الضفة الغربية.
المشهد الفلسطيني الذي يعيش حالة متدحرجة ومتدرجة منذ هبة القدس عام 2015 مرورًا بهبة باب الأسباط والعمود وليس ببعيد هبة القدس عام 2021 التي سبقت معركة سيف القدس التي شهدت حضوراً لافتاً ومميزاً للمقاومة الفلسطينية في غزة مع تشابك الساحات في الداخل المحتل عام 1948.
غير أن ما تشهده الضفة منذ مطلع 2022 يبدو لافتاً بطريقة تعزز هذا السؤال "لماذا لا تندلع انتفاضة فلسطينية ثالثة؟"، وما هي الأسباب التي تمنع ذلك خصوصاً مع تشابه الظروف القائمة حالياً بتلك التي أدت لاندلاع الانتفاضتين الأولى والثانية.
المشهد السياسي.. السلطة نازع للفتيل
رغم ما يمارسه الاحتلال من ممارسات قتل وتصفية وإعدام ميداني وتغيير في قواعد إطلاق النار بشكل تحول فيه الجندي الإسرائيلي لمالك القرار في إطلاق النار من عدمه وفقًا لأهواءه الشخصية ودون وجود أي فيتو على ذلك، بل وصل الأمر لمرحلة الدعم والإشادة الرسمية من المؤسسة الأمنية والعسكرية وحتى الإعلام، إلا أن السلطة ما تزال تروج لخطاب حل الدولتين والمفاوضات.
وتسعى السلطة بكل ما أوتيت من قوة إلى احتواء المشهد الحالي بأقل الخسائر الممكن بالرغم من إدراكها الفعلي أنها تراجعت على صعيد الحضور الميداني والتأثير في الشارع الفلسطيني لصالح القوى الأخرى، بما فيها مجموعات المقاومة.
وتريد السلطة عبر الشخصيات المتنفذة فيها المحافظة على الواقع الحالي باعتباره أفضل شيء يمكن تحقيقه في ظل الواقع السياسي القائم في الاحتلال وصعود الأحزاب الصهيونية المتطرفة في الحكومة المقبلة التي يعمل بنيامين نتنياهو على تشكيلها.
وواصل الرئيس محمود عباس حديثه عن ضرورة إجراء مصالحة فلسطينية بشرط اعتراف الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس بقرارات الشرعية الدولية التي يضرب الاحتلال بها عرض الحائط مع ممارسة الضم المتواصل للضفة.
ويعتبر سلوك السلطة أحد العوامل المؤثرة من خلال محاولة ضبط الأحداث الميدانية ومنع الاشتباك الجماهيري مع نقاط التماس عبر نشر قواتها ومحاولة احتواء الحراكات الجماهيرية سريعًا دون الوصول إلى هبة تنتقل لاحقًا إلى انتفاضة.
الواقع الجغرافي المختلف.. الاحتلال خارج مراكز المدن
لقد شكل تواجد الاحتلال خلال الانتفاضتين الأولى والثانية داخل مراكز المدن أحد أسباب وعوامل الاشتباك اليومي مع جنود جيش الاحتلال، ومع الانسحاب الإسرائيلي منها تراجع ذلك لصالح التواجد في نقاط التماس التي يتطلب الوصول إليها مسافات طويلة.
وبات من الصعب على الجماهير الفلسطينية الانتقال يومياً إلى نقاط التماس للمواجهة مع جنود الجيش بعدما اعتادوا لسنوات طويلة على أن الصراع والاشتباك يدور داخل المدن، وهنا يبرز عامل آخر يتمثل في غياب الفصائل الفلسطينية.
وشكل غياب الدور القيادي للقوى الفلسطينية أحد الأسباب التي تؤثر على قيادة العمل الكفاحي في وجه الاحتلال خصوصاً بعد انتهاء الانتفاضة الثانية عام 2005 بشكلٍ رسمي وما تبعه من ملاحقة لمختلف قادة الفصائل سواء بالاغتيال أو الاعتقال.
ويحتاج الشارع الفلسطيني اليوم إلى قيادة حقيقة تعمل على قيادة الحراك وتوجيهه والتحشيد وقيادة أي هبة وانتفاضة تحدد ملامح المرحلة بعيدًا عن الخطاب المتخبط الذي ساد الفترة من 2007 وحتى عام 2022 الجاري، في ظل فشل كل محاولات المصالحة.
ويلعب التنسيق الأمني الذي تقوده السلطة أحد مسببات استمرار المشهد بواقعه الحالي من خلال استمرار التصعيد والأجواء في مستوى أشبه بالهبة وأقل من الانتفاضة، بالرغم من الاتفاق السابق على تدشين قيادة رسمية من القوى لقيادة المقاومة الشعبية دون أن يرى ذلك النور.
وتكتفي السلطة بين الفينة والأخرى بالتلويح بإجراءات مختلفة دون أن يلقى هذا التلويح أي تعامل إسرائيلي مع ذلك باعتباره تهديد يفتقر إلى الترجمة الميدانية، وهو ما يعني أن الاحتلال يدرك أن خطاب السلطة فارغ المضمون غير قابل للتطبيق.
الطبقة الوسطى الجديدة والعمال..
أسفرَ إنشاء السلطة الفلسطينية عن تحولات طبقية كبيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة. فقد اتسعت هوة التفاوتات بين المناطق والمدن والقرى والمخيمات والأسر. وبرزت طبقةٌ وسطى كبيرة تعتمد اعتمادًا كبيرًا على العمل في الوزارات والأجهزة الأمنية المختلفة للسلطة الفلسطينية، وفي الوكالات المانحة، والمنظمات غير الحكومية، والقطاع الخاص المتنامي النفوذ والمدفوع بعامل الربحية، بما في ذلك في القطاعات الاقتصادية الجديدة كالاتصالات، والإلكترونيات، والتأمين، والخدمات المصرفية والمالية، ووكالات الدعاية والتسويق. وتزامن هذا مع توسع هائل في مجال التعليم على المستويات كافة وفي مؤسسات الرعاية الصحية، فضلاً عن الزيادة الملحوظة في عدد المهنيين كالمحامين، والمهندسين، والمهندسين المعماريين.
ولهذه الطبقةِ الوسطى الجديدة مصلحةٌ واضحة في عدم هز القارب بشدة. فقد نمت شريحةٌ كبيرة من الطبقة الوسطى الجديدة متورطةً في قروضٍ مصرفية استدانتها لشراء منازل، وسيارات، وأثاث، وما شابه. لذا فإن أي انقطاع في رواتب السلطة الفلسطينية أو المستخدِمين الآخرين سيترك هذه الشريحة الكبيرة في حالة انكشاف شبه تامة، كما حصل في أكثر من مناسبة منذ انطلاق الانتفاضة الثانية. ولذا فإن فئات واسعة من الطبقة الوسطى الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة ستردد في المشاركة في انتفاضة قد تعني فقدان سُبل عيشهم.
وعلاوةً على ذلك، هناك 10% من القوى العاملة في الضفة الغربية تعمل في الأراضي المحتلة ومستوطناتها في الأشغال اليدوية، وفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
يعتقد بعض المحللين أن انهيار السلطة الفلسطينية، سواءً بموجب قرارٍ فلسطيني بحلها أو بفعل الضغوط الإسرائيلية والأمريكية، سوف يؤدي إلى انتفاضةٍ جديدة. وثمة محللون آخرون قيَّموا تداعيات انهيار السلطة الفلسطينية، وقدموا توصيات للتعامل مع السيناريوهات المختلفة لذلك.
والنقاش مفتوحٌ حول ما إذا كان انهيار السلطة الفلسطينية سيؤدي في نهاية المطاف إلى انتفاضة أخرى أو بالأحرى إلى تحركات مدروسة تتحدى القيود المفروضة على العمل الجماعي وتكسرها.