أكتب مقالي، يوم ١٢ نوفمبر ٢٠٢٢، من مدينة "لندن" التي تعتبر العاصمة السياسية للمملكة المتحدة، وهي العاصمة الفعلية لعدد 56 دولة في جميع قارات العالم عبر رابطة دول الكومونولث، وكانت إحدى كبار مجرمي الحرب في الدول الاستعمارية، التي قتلت وأبادت الملايين من الشعوب السلمية المسالمة، واحتلت مواردهم وخيراتهم المادية، وعلى رأسها النفط والغاز، ليستمر الفكر الاستعماري إلى يومنا ويُجسد عبر "تصريح بلفور" على شعب وأراضي فلسطين الأبية.
شاركت في ندوة نقاشية جمعت باحثين وناشطين سياسيين وقانونيين تحت عنوان (وعد بلفور ومساعي دفع بريطانيا للاعتذار) التي نظمها منتدى التفكير العربي، نوقش ملف وعد بلفور -في بلد وعد بلفور- سياسيًا وقانونيًا وتاريخيًا وثقافيًا، ما أكد أن المخطط الصهيوني ما هو إلا إنعكاس للاستراتيجية البريطانية الاستعمارية لإقامة وتأسيس وطن قومي لليهود يدعى إسرائيل عام ١٩١٧ في دولة فلسطين وعاصمتها القدس، ما يعني انتهاكا للقانون الدولي تجسد خلال محكمة العدل الدولية التي لم تحكم لمرة واحدة على الدولة الاستعمارية ومرتكبي جرائم الحرب في حق الفلسطينيين عبر النهج العدواني والفصل العنصري المنظّم.
قانونيًا، تصريح بلفور غير قانوني، هو نص فضفاض، بل هو نص لا يحتوي على قواعد شرعية، وعلى سبيل المثال: قواعد القانون الدولي، تؤكد بإن إجراءات الانتداب كانت خرقًا مباشرًا لميثاق عصبة الأمم المتحدة، فإن التقسيم للأراضي الفلسطينية كان تجاوزًا واختراقًا صريحًا لصلاحيات الأمم المتحدة، ليصبح الأمر كفيل بالإدراك ان وعد بلفور وعدًا غير شرعي ولا يمثل أي سند قانوني يعتمد عليه، بل إن بريطانيا عبر وعدها غير الشرعي الذي يبلغ عمره 105 سنوات، لم تراع صك الانتداب على فلسطين خاصة نص المادة 22 من ميثاق العصبة الذي أكد أن المستعمرات والأقاليم التي ترتب على الحرب الأخيرة لم تعد تخضع لسيادة الدول التي كانت تحكمها، والتي تقطنها شعوب غير قادرة على الوقوف وحدها في الأحوال القاسية للعالم الحديث يطبق عليها المبدأ القاضي بأن رفاهية هذه الشعوب وتقدمها إنما هي أمانة مقدسة في عنق المدنية، وبأن يشتمل العهد على الضمانات الكفيلة بالاضطلاع بهذه الأمانة، ما يعني أن الوعد الذي وعد به وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور لتحقيق رؤيته الصهيونية في ٢ نوفمبر ١٩١٧ صدر بالوقت الذي لم تكن لبريطانيا أي صلة أو علاقة قانونية بدولة فلسطين، لأن الانتداب حصل بعد صدور الوعد المشؤوم، وأن بطلان إجراءات دولة الانتداب بالقطع سينعكس على بطلان كل عمل أو فعل نشأ عن هذا التصرف، مما يعني أن دولة الانتداب بموجب مسؤوليتها على الدولة المحتلة التي تقتصر على الإدارة وتسيير حال السكان تكون قد ارتكبت خطأ فادحاً، وتصل إلى درجة جريمة دولية بحق الشعب الفلسطيني عندما منحت فلسطين لليهود، بالدليل أنه وفقًا لقانون الاحتلال الحربي عبر نص المادة 42 فإنه تم تعريفه: “يعتبر الإقليم محتلا عندما يصبح فعلا خاضعا لسلطة الجيش المعادي ولا يمتد الاحتلال إلا إلى الأقاليم التي تقوم فيها هذه السلطة، وتكون قادرة على تدعيم نفوذها على الإقليم”، ما يعني أنه غير مباح شرعًا للدولة المحتلة التصرف بالأراضي المحتلة، في الوقت الذي ادعت بريطانيا -كذبًا وتدليسًا- بأن هدفها هو تحرير فلسطين من نفوذ الدولة العثمانية وإقامة حكومة وطنية فيها، لا سيما أن بريطانيا دولة احتلال، ليس من حقها التنازل عن شبر من الإقليم المحتل، بل تجاوزت انتهاكات الاستعمار البريطاني بالإخلال بإتفاقية جنيف عام ١٩٤٩ التي تناولت حماية حقوق الإنسان الأساسية في حالة الحرب، التي اصبحت هي مجرمة الحرب أولًا وأخيرًا.
كل ما ذكر من تفاصيل قانونية ماهو إلا تأكيدًا بأنه وعدٌ مزيف وباطل لا شرعية له موضوعًا وقانونًا، ويمثل انقلابًا صريحًا على القانون الدولي والمواثيق الدولية، ويبتعد وعد بلفور بالأهلية القانونية والأخلاقية كذلك ولا يمت بصفة لمفهوم المعاهدة ولا الاتفاقية، فهو يبقى مجرد "تصريح" إعلامي لا موضع قانوني أو شرعي له، أُعد على أساس نظرية الهدم والبناء، التي تتعمد الصياغة المبهمة، لتوظيفها في اتجاهين متعاضدين يكمل كل منهما الآخر.
من جانب التفصيل القانوني، فإن الخطوة القادمة من خلال النقاش على هامش الندوة ستتضمن تحركًا سياسيًا من الناشطين سياسيين وقانونيين نحو دفع الحكومة البريطانية بالاعتذار عن خطيئتها العظمى عن "تصريحها المشؤوم" الذي دفعت أثمانه أجيال متعاقبة، ومع تعاطف حزب العمال “Labor Party” مع القضية الفلسطينية وتأكيدهم على الحق الفلسطيني، وبوادر تولي ذات الحزب الحاكم البريطاني في دورة الانتخابات القادمة ٢٠٢٤ في بريطانيا، فإن المساعي تبدأ فعليًا اليوم، لخطوة مستقبلية منتظرة نحو الاعتذار والأمر قد لا يعد تحريرًا لدولة فلسطيننا، إنما هو رد اعتبار تاريخي وخطوة جديدة نحو التحرير من الاحتلال، وما هو إلا بداية لمعركة نضالية سياسية اعتبارية قادمة مع الكيان المحتل، ومن من أتى بالاحتلال الصهيوني.
قرن كامل مر على "تصريح بلفور" الذي ثبت أنه باطل، وأن بريطانيا الاستعمارية التي تبنت المشروع آنذاك، لم تملك فلسطين ولا تربطها بعلاقة شرعية، ومن يقدم الوعد بشيء ليعطيه لآخر فمن المفروض أن يكون مالكه، وبريطانيا لم تملك فلسطين أو أي شبر منها يوما من الأيام، يعني ذلك أنها لا تملك حق تقرير مصير الشعب الفلسطيني لأن دولة فلسطين ملك لشعبها الشرعي وهو وحده يملك حق تقرير مصيره وهويته، طبقًا لمبادئ القانون الدولي، وحق الشعوب في تقرير مصيرها وصنع قرارها، فالعدوان الصهيوني المتحيز والعنصري لا قرار له.
لا يمكن بأيِّ حال من الأحوال تجاهل الجريمة الكبرى التي ارتكبتها بريطانيا بحق الشعب الفلسطيني وأراضيها، ولكن من الأهمية لنا كشعوب عربية حيّة أجمع نبحث عن التحرير من الاحتلال الصهيوني وتحقيق الاستقرار من الإستعمار أن نعي أن الأمم لا تبنى ولا تستقر عبر تصريحات سياسية أو بيانات صحفية عابرة أو تنديدات إعلامية لا تأثير حقيقي لها، بل خلال الفعل المقاوم، وتسلط الضوء على عنصرية الكيان الاستعماري البريطاني والوجع القبيح له أولًا، ثم كشف حقيقة الأمم المتحدة بقوانينها ومنظماتها التي تكيل بمكيالين في الحق الفلسطيني وبتخاذل دولي متعمد ثانيًا، وإبراز انتهاكات الكيان المحتل في حق الأبرياء وتشريد الأطفال وإبادة الشعب الفلسطيني، لأننا بحاجة إلى كافة الوسائل لفرض حقيقة أن لا دولة للكيان الصهيوني غير الشرعية، وأن فلسطين دولة عربية محتلة وعاصمتها القدس، أنه صراع فكري ونضال سلمي، والمقاومة بمختلف أنواعها وأبعادها ما هي إلا إستراتيجية فاعلة ومثمرة على الأرض، لأجل خلق واقع حقيقي يؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير موازين القوى الباطلة لمصلحة تحرير فلسطين، كامل فلسطين، وحق الشعب الفلسطيني، وإعتذار كل العالم، وبريطانيا بالأخص عن "تصريحها" الاستعماري.