نابلس - خاص قُدس الإخبارية: أصوات رصاصات وانفجارات أيقظت سكان البلدة القديمة بنابلس الساعة الواحدة فجرًا، الصحفية رشا حرز الله التي كانت قبل ثلاث ساعات تجلس مع شقيقها محمد (30 عامًا) على مائدة عشاء لم تخلو من "المناغشات" الأخوية قبل خروجه من المنزل، صعدت لسطح المنزل وبدأت بالبث المباشر على صفحتها على "فيسبوك" مع زيادة أصوات الرصاص والقذائف والانفجارات، وصلها اشعارٌ باستشهاد "الشاب .." لكنها لم تقرأ الاسم وأكملت البث، ومع كثرة اشعارات الأصدقاء الذين يرسلون تساؤلات لها عن ماهية الحدث، أنهت البث، لتطلْ صورة شقيقها أمامها معلنين استشهاده.
رشا التي تعودت على كتابة الأخبار وقصص الشهداء، لأول مرة لم تستطع أحبالها الصوتية حمل نقل الخبر لأمها وقلبها لم يستطع حمل هذا الجرح أيضًا، كانت الكلمات ثقيلة على النطق، حتى فهمت الأم أن شيئًا ما حدث لابنها المقاوم: "محمد صايرله ايشي!؟"، ردتْ بكلمة واحدة نعته بدموع عينيها بصوت خافت بالكاد نطقت: "استشهد".
وفي الخارج ظلت الاشتباكات متواصلة، وقوات الاحتلال تعتلي أسطح منازل الجيران وتحولها لثكنات عسكرية، حتى هدأت أصوات الرصاص الساعة الخامسة فجر 24 يوليو/ تموز الماضي، أعلن استشهاد محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح، أما حرز الله فكانت حالته خطرة ولم يستشهد.
لم يستيقظ شقيقه أسامة على رجات هاتفه المتتالية، حتى سقط الهاتف أرضا في المكالمة رقم "41" وأيقظه، يخبره المتصل باستشهاد شقيقه، يستحضر تلك اللحظة في مستهل حديثه مع شبكة "قدس الإخبارية": "لم أنم لمدة يومين قبل الإصابة، لأنني أجريت عملية جراحية لطفلي الصغير ومكثت معه، حتى أفقت على صدمة استشهاد أخي".
وصل أسامة المستشفى، ورأى شقيقه يرفع على الاكتاف شهيدًا، ثم أخذته عيناه لطبية توقف مسير الشباب نحو ثلاجة الموت والشهداء تريد تغطية الكفن بالكامل، انزل الشباب الكفن، وبدأت في عملها، ولاحظت حركة يد أخي محمد اليسرى، وبدأت بالصراخ والمناداة على الطاقم: "عمليات .. عمليات"، استمرت العملية 7 ساعات، وخرج فاقد الوعي "غيبوبة".
منذ إصابته، عاش حرز الله الذي تعرض لإصابة في الرأس لمدة 60 يومًا في حالة فقدان الوعي "غيبوبة" ممددًا على سرير المشفى، ثم تحسنت حالته وبدأ يفتح عينيه ويستطيع تناول الأكل، وهذا ما بث الأمل في قلوب أسرته بأن ينقل لمستشفى التأهيل، وفي آخر 24 يومًا تدهورت حالته، وأعلن عن استشهاده في 23 نوفمبر/ تشرين ثاني الماضي.
في ذات اليوم، لم يغب شقيقه الأكبر أسامة (36 عامًا) أكثر من ساعتين عن شقيقه المصاب حتى تلقى اتصالاً من أحد الأطباء يطالبه بالحضور للمشفى فورًا: "نظرًا لوجود مضاعفات صحية على حالة شقيقه، وارتفاع ضغط الدم واختلاف درجة الحرارة "، كما أخبره الطبيب مساء الأربعاء الماضي، لكن طول الطريق من نابلس للمستشفى الاستشاري برام الله، راودته خلالها احتمالاتٌ عديدة حول مصير شقيقه، جعلتهُ يتصل بالطبيب ويلح عليه ليضعه أمام الحقيقة، التي لم يخفها؛ قائلاً: "أخوك استشهد".
زف 5 مرات
تجرعت شقيقته "رشا" خبر استشهاده خمس مرات، في إصابته الأولى التي تلقت فيها خبر الاستشهاد، وبعد ثلاثة أسابيع أعلن عن استشهاد شاب بالمستشفى العربي، وكان الشهيد الشاب محمد العرايشي وكان وضعه أقل خطورة من شقيقها لكنها اعتقدت أن الشهيد أخوها، وفي المرة الثالثة، تلقت اتصالات هاتفية في منتصف الليل، تسألها عن وضعه!؟، فاعتقدت أنه استشهد، وتبين أنه أصيب.
على مدار 123 يومًا توقفت حياة العائلة، الجميع كان يتعلق بصيص أملٍ أن يعود محمد لعافيته ويخرج من الحالة الصحية غير المستقرة، حتى كانت رشا على موعدٍ مع الصدمة الرابعة، حينما وصلها أنباء عن محاصرة الجيش للمستشفى الاستشاري برام الله بهدف اعتقال شقيقها، سبقها عملية تحريض بثتها عنه وسائل الإعلام العبرية وجرى تداول خبر استشهاده، أما الصدمة الخامسة فعاشتها حيَّة أمام عينيها، كان خبرًا يقينًا حينما لفظ محمد أنفاسه الأخيرة وهي تمسك يده بغرفة المشفى.
رغم شدة الأخوة بينهما، يستبدل شقيقه أسامة الذي رافق شقيقه المصاب 123 يوما متواصلا الحزن بفرح الفخر، يقول بعفوية: "احنا زعل مش زعلانين، عنا بالبيت عرس وتهاني، وكل الفترة اللي مكثتها عنده ما تعبت ولا مليت ولا كليت، هذا واجب مستحق مني على أخوي، الإرهاق الجسدي مش مشكلة".
ما كان يشغل بال أسامة طيلة فترة مكوث شقيقه بالمشفى هو التفكير بحاله الطبي، والبحث عن أفضل الأطباء والمستشفيات، طيلة فترة مكوث شقيقه بالمستشفيات، إذ أمضى 14 يوما بمستشفى رفيديا بنابلس، ثم مكث 80 بالمستشفى العربي التخصصي بنفس المحافظة، و23 يوما بالمستشفى الاستشاري برام الله.
بارقة أمل
بعد ستين يومًا من المكوث في غيوبة، كان شقيقه أسامة ينتظر أي لحظة أملٍ ترد إليه فرحته، لطالما كان يشحذ معنويات شقيقه المُكنى "أبو حمدي": "أنت واجهت اليمام، فكيف للبكتيريا والحرارة والإصابة بدها تهزمك!؟".. بتلك الكلمات كان أسامة يحاول شحن معنويات شقيقه، مشاهد تغرس جذورها بذاكرته: "كنت أقول له أيضًا: أنت سند لأهل البلد، للناس، حتى أرفع معنوياته، أذكره بالماضي الجميل، مساعدته للناس بالخفاء، فكان أخي صاحب همة وفزعة، رغم أنه صامت قليل الكلام كثير العمل".
تقفز أمامه الصورة الأولى التي أفاق فيها محمد من "الغيبوبة": "سمع الأطباء صراخي، كنت فرحًا".
كل الكلام انحبس في مخارجه ولم يستطع محمد نطق أي اسم طوال فترة العلاج، سوى اسم شقيقه "أسامة" الذي كان الكلمة الوحيدة التي ينطقها لسانه في اليوم نحو 100 مرة، يستحضر صور التحسن: "وصل لمرحلة ينادي فيها علي باسمي: أسامة، أسأله إن كان يريد الأكل فكان يعطيني اشارات، أطلب منه الصلاة بعينيه لكنه لم يعطِ تجاوبًا فقط تظل العينان مفتوحتين، لم أفارقه إلا ساعة أو ساعتين باليوم لتبديل الملابس فقط، كنت أمضي معه عشرين ساعة يوميا منذ إصابته(..) عطلنا حياتنا وشغلنا التي توقفت لأجل عيون أخي "أبو حمدي".
عمل محمد في محل لصناعة الحلوى في البلدة القديمة، لم يكن ظاهرا للاحتلال كان يقاتل في الخفاء، فكان يعيش حياةً طبيعية، اعتقله الاحتلال لعام ونصف عام 2013، تعود ذاكرة شقيقه للوراء مستذكرًا: "عندما اقتحموا البيت، تخفى داخل أحد زوايا منزلنا القديم، فاعتدى جنود الاحتلال علي، فتفاجأت بخروجه لهم والهجوم على الجندي الذي كان يضربني".
قبل لحظات من خروجه الأخير قبل إصابته، زار محمد شقيقه أسامة ومكث عنده، ودار بينهما حوار يحضرُ شقيقه الآن: "أخبرته أن أمي مريضة، وأن عليه أن يهدئ المقاومة قليلاً، وقلت له يمكن أن تسجن وينتهي الأمر، لكنه فضل الشهادة على السجن وقال لي: "يا على القبر يا بلاش".
يروي لحظة إصابته نقلاً عن شهود عيان: " لم تكن هناك مواجهات، حتى أنه خرج من عندي وذهب لزيارة أصدقاء له، حتى سمع عن دخول قوات خاصة، فدخل من بين زقاق البلدة القديمة لمنطقة يحاصرها الاحتلال من كل الاتجاهات، بهدف رفع الطوق الأمني عن عائلتين وصديقه العزيزي وصبيح، فاشتبك مع قوات الاحتلال التي تراجعت للخلف وأخّر اقتحامهم 40 دقيقة، ولم تزد المسافة الفاصلة بينه وبين الجنود عن 15 مترًا، كانت الاشتباكات مباشرة من مسافة صفر".
المناضل الصغير
ورغم بلوغ محمد سن الثلاثين عامًا، توقع شقيقه إسامة، استشهاده قبل عشرين عامًا، عندما كان طفلاً وفتى صغيرًا، لشدة انخراطه في مواجهة الاحتلال بدءً من الحجر والمقلاع والمولوتوف حتى السلاح.
"في أي مكان تواجد الاحتلال، كان أخي يرشق قواته بالحجارة بكل شراسة"، ينتقي مشهدًا من أدراج الذاكرة لا يقل جرأة عن مشهد اشتباكه الأخير، لا زال يذكر التاريخ جيدًا، يوم 21 مارس/ أذار 2003، "أثناء اجتياح قوات الاحتلال للضفة الغربية، فتح محمد باب ناقلة جند، وقاموا بإطلاق 25 رصاصة مغلفة بالمطاط على قدميه".
يومها طلب محمد من أسامة ألا يخبر والدهم، مفضلا تحمل ألم الإصابة على إخبار والده، حتى لا يمنعه من الخروج مجددًا.
" أبو حمدي، صديقي وليس أخي فقط، كنت أمين سره وهو كذلك، تجمعنا غرفة مشتركة واحدة، لدينا تفاصيل حياة واحدة وكاملة، حزين جدا على فراقه لكن عزائي الوحيد أنه شهيد"، يطل شقيقه على العلاقة التي كانت تربطهم.