شبكة قدس الإخبارية

تشرَّب من والده حب فلسطين وثأر له بعد 20 عامًا

"الفدائي الأنيق" محمد صوف .. معيل البيت وابن "حارس" الشجاع

317174524_854076052387459_5959865774776610463_n
يحيى موسى

سلفيت - خاص قُدس الإخبارية: صلى محمد صوف (18 عامًا) فجر الأربعاء، وجلس بعد الصلاة مع أولاد عمه على مائدة الإفطار تزينت بمأكولات شعبية تنبعث منها أصالة الأجداد، لم ترسم ملامحه سوى ابتسامة طبيعية هادئة لم تفارق محياه يومًا، لم يكن شارد الذهن ولم يبادلهم نظرات وداع لم يطل التحديق بهم، حتى وهو يمسك هاتفه بعد الإفطار ويشاركهم في ألعاب الهاتف المحمول القتالية، يوم الأربعاء 16 نوفمبر/ تشرين ثاني 2022، كل شيء مر طبيعيًا وكأنَّه ليس يومه الأخير بينهم.

بعد لحظاتٍ ارتدى ملابس جديدة اشتراها ليلة الثلاثاء، ووقف أمام جديه يرتدي قميصا وحذاءً أبيضًا وبنطال "جينز"، يسأله عن رأيه بأناقته: "كيف يا سيدي اللبسة!؟"، بنظرات فخرٍ، قال جده المسن: "عريس ما شاء الله"، لكنه سأله: "مالك مش سارح اليوم على شغلك بدري؟"، وجد محمد عذرًا يمكن أن يمرره على جده دون اشعاره بنوع من الريبة: "اليوم طلبية الشغل مسائية"، بعد ساعات طلب سيارة وخرج من منزله، في قرية "حارس" إلى الغرب من مدينة سلفيت جنوب محافظة نابلس.

لم يمر أكثر من 24 ساعة على إعدام قوات الاحتلال الطفلة فلة المسالمة، التي أطلق جنود الاحتلال عليها رصاصة في الرأس خلال اقتحامهم بلدة بيتونيا بمحافظة رام الله والبيرة، حتى استيقظ الإسرائيليون على عملية طعن ودهس نفذها الشاب محمد صوف قرب المنطقة الصناعية بمستوطنة "أرائيل" المقامة على أرض سلفيت شمالي الضفة الغربية المحتلة، وارتقى شهيدا برصاص قوات الاحتلال.

لم تمنع الإجراءات الأمنية الإسرائيلية المعقدة، الشباب الفلسطيني الذي وصل إلى بوابة مدخل المنطقة الصناعية في "أرئيل" من طعن مستوطن، وتركه بحالة حرجة.

ذهب بعد ذلك إلى محطة وقود وطعن شخصين، أعلن عن مقتل واحد والآخر أصيب بحالة خطرة، ثم استقل سيارة إلى شارع رقم "5"، (عكس اتجاه السير)، مما تسبب بوقوع حادث، حيث نتج عن ذلك مقتل شخصين وإصابة بحالة خطيرة.

بيت مقاوم

في البيت وقف عمه مصطفى وأولاد عمه الذين كانوا يجلسون معه قبل ساعات، يعاينون صورة لشاب ممدد على الأرض بعد ارتقائه شهيدًا، وقبل ذلك يطابقون ملامحه وهو يطعن حارس المستوطن بمقطع فيديو، واثناء طعنه لجندي عندما نزل محمد من مركبة وقام بالسيطرة عليها، أيقن الجميع أن المنفذ ابنهم "محمد".

تبكي والدته، بحرقة يعتليها حزن كبير وهي تزيح الستار عن آخر لحظات محمد: "هو مسؤول عن البيت من الألف للياء بعد وفاة والده، قبل استشهاده نزل راتبه وأحضر أغراض البيت، كان طبيعيا هادئًا، فقط قال لي: "دير بالك على سامي" شقيقه الأكبر".

يستحضر عمه مصطفى الذي روى التفاصيل السابقة لــ"قدس" آخر لحظات محمد في العائلة قائلاً: "كان طبيعيا حتى في آخر ساعاته، بعدما صلى وتناول الإفطار وجلس مع جديه، وكل هذا مضى بشكل طبيعي لم يكن شارد الذهن، لا أعرف من أين امتلك هذا الصبر والتحمل، بأن ينوي على هذا العمل ويعيش مع العائلة حياة طبيعية حتى آخر اللحظات، حتى رأينا صورته بدأنا بالاتصال عليه، لكنه قد ترك هواتفه بالبيت، ثم جاءت قوات الاحتلال واقتحمت بيوتنا وأخبرونا أن منفذ العملية هو محمد وأخذوا تحقيقات ميدانية من الجميع".

لم يكن ارتداء ملابس جديدة شيئًا غير معهود عن محمد المعروف بأناقته حتى لقب بعد استشهاده بـ "الفدائي الأنيق"، كان عمه شاهدًا على ذلك: "ورث محمد هذه الأناقة من والده الذي كان يحب أن يظهر بشكل جميل أمام الناس، حتى أنه قبل ليلة استشهاده نزل للسوق واشترى الملابس التي نفذ بها العملية".

ولد محمد عام 2004، لكن معاناة العائلة بسبب الاحتلال بدأت قبل ولادته حينما اعتقل الاحتلال والده بداية انتفاضة الأقصى 2000 على ثلاث مرات بلغت في مجموعها عامين.

يعود عمه بذاكرته 22 عامًا للوراء: "محمد لديه الكثير من الجينات التي يحملها والده الذي كان عنيدا على الحق، اعتقل الأب وهو بعمر 15 عامًا، وفي أحد الاعتقالات تم ضربه بقسوة وسبب الاحتلال له عاهات بجسده، ونزف دما كثيرا، فأعطاه الاحتلال دما فاسدا على أثرها أصيب بالتهاب الكبد الوبائي وظل 19 عاما يتعالج حتى تحول الالتهاب لتليف وسرطان بالكبد توفي على إثرها قبل ثلاث سنوات، ونحتسبه شهيدًا لأنه مات مبطونًا ومتأثرًا بالاعتداء عليه".

من عائلة وقرية عانت من ويلات الاحتلال، تشكلت شخصية محمد، الذي عايش معاناة والده كثيرًا حتى أنه تخلى عن طفولته لأجل المكوث مع والده، يستذكر عمه: "كان يلازم والده 24 ساعة، يمكنك اعتباره يده اليمنى، كان الأولاد يذهبون للعب كرة القدم أو بالدراجات الهوائية بينما يبقى هو عند والده، فأطلب منه الذهاب معهم لكنه يرفض، ويقول لي: "الناس بتيجي لزيارة أبي المريض، بدي اضلني جنبه بلاش يحتاجني".

يعرض عمه صورة أخرى لهذه الطاعة: "كنت أشبه علاقة البر بينهما، بعلاقة سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل، حتى بعد وفاة والده كان محمد يذهب للقبر يوميًا، وعندما يعود من عمله ولو كان الوقت متأخرًا يذهب لزيارة المقبرة، حاولت نهيه بأن زيارة المقابر كثيرا ليست محمودة، فرفض وقال لي: "أنا أبوي بروحش عن بالي، بقدرش ما أروحش لزيارته".

مؤخرًا اقتلع الاحتلال 2000 شجرة معمرة ومثمرة من قريته، لتفجر هذه الجرائم بركان الثورة في قلب محمد، يقول عمه: "نحن عائلة فلسطينية ريفية مثلنا مثل باقي عائلات فلسطين، نحب البلد والأرض ولدينا انتماء للوطن، ومحمد خرج من بيت فلسطيني مكافح، متدين محافظ وهو نسخة شبيهة عن والده بصفاته وسلوك حياته، تشرَّب حب الوطن من والده الذي بدأته حياته النضالية في سن 15 عاما، فنشأ نشأة صحيحة".

السند والمعيل

وللشهيد محمد 3 شقيقات و3 أشقاء، وكان يعيلهم بعدما ترك مقاعد الدراسة من الصف العاشر مجبراً ليعيل أسرته بعد وفاة والده قبل ثلاثة أعوام، يفتخر عمه بابن شقيقه: "رفضوا قبول المساعدة من أحد، فقرر محمد أن يترك هو المدرسة ليعيل أسرته ويعلِّم شقيقه الأكبر، فلجأ لسوق العمل الإسرائيلي مع أعمامه وأولاد عمه وكان يخرج من الفجر حتى المساء، ولم نكن نراه قليلا سوى أيام الجمعة والسبت لنسأله عن أحواله".

عمل محمد بمصنع منظفات في مستوطنة "أرائيل" الصناعية منذ ستة أشهر، وقبلها عمل في شركة أخرى لكنه تركها لأنه "لا يريد أن تذهب عليه صلاة الجمعة" كون الشركة تعمل في هذا اليوم، وكان يؤسس لحياة ومستقبل، قامت العائلة بتصميم مخططات هندسية لبيت له، وكان على وشك تقديم دفعات نقدية للمقاول للبدء بتجهيز بيته. والكلام لعمه

"حقيقة هو شاب شجاع ولديه إقدام، لكنه كان مسالمًا في معاملته مع الجميع كان خجولا عندما تجلس معه، تراه قليل الكلام ويجيبك على قدر السؤال" وهذا ما جعل عمه يتعجب مما فعله بجنود الاحتلال ومستوطنين، لا زالت الدهشة تسيطر على صوته: "عندما رأيت الفيديو، هو ليس حملا أنه يمسكن سكينا ويطعن بهذه الشجاعة والشدة، لم نلمس في حياته أن لديه كل هذه البسالة".

يسحبُ موقفا من أدراج الذاكرة، تجعله يخالف اعتقاده السابق: "حدث موقف واحد في حياته، عندما جاء شابا وقابل محمد بطريقه وطلب منه أن يرسل تهديدا لابن عمه بأنه سيضربه، فقال له محمد: "انت ليش جاي تقلي، روح وجهله الكلام" فقام الشاب بصفعه".

ينقل عمه عما رواه له من كان شاهدا على هذه الحادثة: "حمل محمد الشاب بيد وطرحه أرضا، وعندما جاء أفراد العائلة، حمى الشاب، وقال لهم: "هو اعتدي علي وأخذ نصيبه"، ولولا أنه اعتدى عليه لما رفع يديه عليه، ورفض أن يلمس أحد الشاب".

في رمضان الفائت، اعتمر محمد برفقة والده وجدته وبعض أفراد العائلة عن روح والده، وعاد ليفجر بركان غضبه وثورته ويثأر لاعتداء الاحتلال على والده قبل 20 عاما، الذي لطالما روى له تفاصيل الاعتداء عليه وضربه وتعذيبه ونزفت دماؤه، فخلال وقت تنفيذه العملية وقفت "أرائيل" على قدمٍ واحدة ونزفت دماء المستوطنين، الجميع كان يهرب من مواجهة الشاب الذي لم يحمل إلا سكينا وشجاعة قلب ضارية.

#عملية #شهيد #محمد - صوف #مستوطنة - أرئيل