فلسطين المحتلة - قُدس الإخبارية: في "أحراش يعبد"، كان دم الشيخ عز الدين القسام ورفاقه الذين استشهدوا معه في مواجهة جيش الاحتلال البريطاني، كأنه يفجر الثورة في فلسطين، وهذه ليست صورة مجازية أو إنشائية، فبعد ارتقاء الشيخ ومجموعته اندلعت الثورة العربية الكبرى، التي شكلت مفصلاً هاماً في تاريخ الصراع مع الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية.
تميز القسام كما تؤكد المصادر التاريخية التي واكبت حركته الثورية في فلسطين، أنه وجه الصراع مبكراً نحو الاحتلال البريطاني، بينما كانت بعض النخب الفلسطينية تحاول التوصل إلى تسويات معه، وأكد حينها على الدور البريطاني في تسهيل سيطرة الحركة الصهيونية على فلسطين.
الشيخ المولود في سوريا، بدأ تجربته الثورية ضد الاستعمار بالاشتراك في الثورة السورية التي اندلعت رفضاً للاحتلال الفرنسي، وربطت علاقات قوية مع قادة الحركة الوطنية، وألقى الخطب التي حرضت على الجهاد ضد المحتلين، وانضم إلى احدى الخلايا الثورية في منطقة اللاذقية، ورفض الشيخ المغريات التي قدمتها له السلطات الفرنسية لترك الثورة، وحكمت عليه لاحقاً مع مجموعة من رفاقه بالإعدام.
وبعد سقوط الحكومة الفيصلية عقب انتصار قوات الاحتلال الفرنسي، في معركة ميسلون، غادر القسام إلى فلسطين، وبدأ بتأسيس حركته الجهادية، بعد أن سكن في مدينة حيفا، واستفاد من مكانها الاستراتيجي حيث تصل فلسطين ببلاد الشام وبعدها عن الصراع العائلي الذي كانت تعيشه فلسطين حينها بين "الحسيني والنشاشيبي والخالدي والعبوشي وعبد الهادي وغيرها"، كما يقول المؤرخ الفلسطيني الراحل سميح حمودة.
واجه القسام في فلسطين، وفقاً للمؤرخ حمودة، تحدياً مزدوجاً حيث سلطات الاحتلال البريطاني تسيطر على البلاد والتحدي الصهيوني كان يتزايد يوماً بعد الآخر، وبعد خطبه في مسجد الاستقلال جعله أكثر المساجد شهرة في المدينة، واستفاد من الإقبال الشعبي عليه في التحذير من الخطر الصهيوني، والدعوة للجهاد ضد الاستعمار، واختيار عناصر طليعية للتنظيم الثوري.
حرص الشيخ القسام على الطواف في كل قرى ومدن فلسطين، للاتصال مع الناس، وتروي المصادر التاريخية على أنه أقام علاقات مع الطبقات المحرومة مثل العمال وغيرها، وكانت له علاقات مع المجتمع، بشكل يشير إلى وعيه إلى دور الناس في الثورة، واستغل كل المنابر المتوفرة للتحريض على الجهاد.
تعتقد المصادر التاريخية أن القسام بدأ في العمل الفعلي، لبناء تنظيم ثوري، في عام 1925، وقد بدأت المجموعة عملها العسكري بعد عام 1929، ويقول المؤرخ حمودة إن أسلوب الشيخ في اختيار عناصر تنظيمه كان يعتمد على "مراقبة المصلين وهو يخطب على المنبر، ثم يدعو من يتوسم بهم خيراً لزيارته في بيته، ثم بعد الزيارات يقنعهم بالعمل لصالح الجهاد، ولاحقاً يتم تشكيل مجموعات قوامها من 5 - 8 أشخاص".
قسم الشيخ أتباعه إلى خمس مجموعات لكل منها مهمتها، الأولى لشراء السلاح وكلف الثانية بالتدريب العسكري والثالثة بمهمات استخباراتية في التجسس على الصهاينة والاحتلال الانجليزي، وكانت مهمة المجموعة الرابعة الدعاية للثورة في المساجد والتجمعات، والأخيرة اطلعت بمهمة الاتصالات السياسية؟
نظم القساميون رحلات تدريبية في الجبال، واستفاد الشيخ من عضويته في جمعية الشبان المسلمين للتستر على التدريبات، تحت حجة العمل الرياضي والكشفي، وانطلاقاً من الفترة 1931 - 1932 بدأ القسام عملياته ضد الأهداف الصهيونية والبريطانية، وكانت أولى العمليات ضد مستوطنة "ياجور"، حيث أدى كمين نصبه القساميون لقافلة صهيونية لمقتل 3 منهم وإصابة آخرين.
بعد أن تراكمت ظروف مختلفة، رأى الشيخ أن فرصة اندلاع ثورة في فلسطين باتت متاحة، وقرر الخروج لإعلان الجهاد، ويروي كتاب المؤرخ سميح حمودة عن الشيخ القسام، أن الأخير أرسل رسالة إلى مفتي فلسطين أمين الحسيني طلب منه فيها إمداد الثورة بالسلاح، واستقال من رئاسة جمعية الشبان المسلمين في حيفا، وخطب خطبته الأخيرة التي قال فيها: "ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة، أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه".
غادر القسام مع 16 مجاهداً، كما تروي المصادر التاريخية، وقررت المجموعة أن تبدأ عملها باحتلال حيفا أكبر ميناء فلسطيني، ووضعت خطة كاملة فيها تفاصيل الأوضاع الميدانية والعسكرية بالمدينة، وقدرت أن بإمكانها الاحتفاظ بالمدينة لمدة 3 أيام، وفي جبال قرية نورس أقاموا داخل مغارة.
تختلف الروايات حول ما حصل مع القسام ومجموعته، قبل المعركة الأخيرة، في أحراش يعبد، لكن الثابت أن المعركة اندلعت بعد أن حاصرت قوات كبيرة من جيش الاحتلال البريطاني المنطقة، وعندما اقترب فصيل من الشرطة من مكان الشيخ ورفاقه، أطلقوا عليهم النار، ظناً منهم أن هذه هي كل القوة، وحينها حددت قوات الاحتلال مكان الشيخ، واندلعت المعركة التي اتخذت شكل "القتال المتنقل"، وفقاً للمؤرخين، وقاتل القسام بما توفر معه من سلاح، قبل أن يرتقي مع أربعة من رفاقه.
بعد استشهاد القسام، أعلن الإضراب العام في حيفا، وشاركت عشرات آلاف الجماهير في تشييع جثامين الشهداء، وتحولت الجنازة إلى مظاهرة وطنية، وطوال مسير الجنازة التي امتدت من قرية الياجور التي تبعد 10 كيلو مترات عن حيفا، هتفت الجماهير ضد الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية، بينما تخلفت عن المشاركة في التشييع معظم قيادات النخبة الفلسطينية باستثناء قادة حزب الاستقلال رشيد الحاج ابراهيم وصبحي الخضرا وعادل وأكرم زعيتر.
تعتبر معركة يعبد التي استشهد فيها القسام مع رفاقه، المواجهة التي فجرت الثورة العربية الكبرى، في وجه الاحتلال الإنجليزي والصهاينة، وبقي أثر الشيخ حاضراً في الصراع مع الاحتلال، حتى اليوم، ويحتل مكانة في صدارة التراث المقاوم الذي حل رمزياً على مختلف قوى المقاومة.
في قصيدته "القسام يعلم في جامع الاستقلال"، كتب الأديب الفلسطيني ناهض الريس:
اعلم يا ولدي أن الثورة بنت السرْ
تولد في رحم اليأسْ
يودع نطفتها العقل الراجحُ
في القلب المجنونْ
تَتَغَذَى بالحبل السُرِيِ مِن النار المستعرةِ
في الأعماقْ
فاحذرْ أن يُجْهِضها الإفصاحْ
واحذرْ أنْ يخنُقها الكتمانْ
والثورة في البدء زواج الكلمة بالإنسانْ
فتَخَيَرْ للنُطفة أرحاما لا يبصق فيها الزانونْ !