في الساعات الأولى من فجر الثلاثاء في 25 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، كانت البلدة القديمة في مدينة نابلس على موعد مع هجوم واسع نفّذته قوات جيش الاحتلال الصهيوني بوحداتها المختلفة، مُستهدفة أماكن تحصّن وتمركز مقاومي مجموعة “عرين الأسود” في مدينة نابلس.
العملية العسكرية في البلدة القديمة لم تكن منفصلة عن خطة متدحرجة وواسعة أطلقتها حكومة الاحتلال وجيشها بهدف القضاء على مجموعات المقاومة، وبشكل خاص مجموعة “عرين الأسود”، بدأت من حصار نابلس ولم تنتهِ حتى كتابة هذا المقال، الذي سيتناول أبرز مظاهرها الأخيرة.
ملحمة “حوش العطعوط” في البلدة القديمة (الاستهداف العسكري المباشر)
كانت الأحداث متلاحقة، ولم يكن بإمكان أي متابع أن يقف تماماً على حقيقة مجريات الأمور على أرض الواقع، ولم يتمكن أحد حتى لحظة كتابة هذا المقال من معرفة التفاصيل الكثيرة مما لم يُنشر حول ساعات من الاشتباك والمواجهة، بدت وكأنّها دهر من الوقت الثقيل الذي تسارعت فيه الأحداث الميدانية بمشاهد ملحمية، لم يتوقف فيها رصاص المقاومين للحظة واحدة، ولم تسكت فيها حناجر المواطنين ولا حجارتهم أيضاً للحظة واحدة.
انسحب الجيش، لم تكن الأمور واضحة، لكنّ الثابت الوحيد، أنّ معركة ملحمية قد جرت في أزقة البلدة القديمة، وأنّ ما جرى بين جدران حي القصبة وحوش العطعوط لم يكن مثلما خطط الاحتلال، بل كانت عزائم المقاومين، تقهر نخبة الجيش الأعلى تدريباً في المنطقة، لدرجة أنّ سلوكه الهستيري أوصله لاستعمال كل أسلحة التغطية والاستهداف الصاروخي لأماكن تحصّن المقاومين، ليؤمّن انسحاب نخبته من أزقة البلدة القديمة في مدينة نابلس.
انتهت المعركة، بإعلان ارتقاء أحد أبرز قادة “عرين الأسود”، الشهيد وديع الحوح (31 عاما)، مع 4 شبان آخرين هم: حمدي صبيح رمزي قيم (30 عاما)، علي خالد عمر عنتر (26 عاما) وحمدي محمد صبري حامد شرف (35 عاما)، بالإضافة لمشعل زاهي أحمد بغدادي (27 عاما)، في ما لم يُعلن الاحتلال عن خسائره، وتضاربت رواياته حول هذه العملية، ببيانات متلاحقة من الناطق باسم الجيش.
الاستهداف المركّز لتحييد مواضع التأثير (العمليات الأمنية والاغتيال)
سبق العملية العسكرية في البلدية القديمة بيوم، استهداف الشهيد تامر الكيلاني بعبوة ناسفة تمّ زرعها من أحد عملاء الاحتلال، انفجرت لحظة مروره من جانبها، ليكشفَ الاحتلال أنّ الشهيد “الكيلاني” كان بمثابة “ضابط العمليات الخاصة” في “عرين الأسود”، وهو المسؤول عن مجموعة من العمليات كان أبرزها إرسال إستشهادي إلى العمق الصهيوني، إضافة لتفخيخ محطة وقود في مستوطنة “كودميم” وعمليات الإغارة وإطلاق النار والمسؤولية عن قتل جندي صهيوني قرب نابلس.
لم يكن استهداف الكيلاني، بعملية اغتيال بهذه الدقة لم تجرِ منذ سنوات طويلة في الضفة الغربية، عملاً عشوائيا، بل تقديراً أمنياً دقيقاً لأهمية ومحورية دور الكيلاني في العمليات الخاصة ونقل طبيعة الفعل المقاوم، من الحالة الدفاعية إلى حالة المبادرة الهجومية، وصولاً لمحاولة تنفيذ عمليات في عمق الاحتلال والمدن الفلسطينية المحتلة عام 1948، ومن جانب آخر لدوره المحوري في تصليب الموقف وتمتين اتجاه البوصلة، نحو القيم الرئيسية التي حددها “العرين” عند انطلاقه.
قدّر الاحتلال جيدا، أنّ ضربة أمنية بحجم اغتيال المقاوم تامر الكيلاني في داخل البلدة القديمة، ستدفع قيادة “عرين الأسود” للتحرك.. أولا، للوقوف على خلفيات الحدث وحجم الاختراق، وثانيا، لوضع ترتيبات جديدة سواءً أمنية، أو كفاحية في بحث سبل الرد على العملية الصهيونية، وهي الفرصة التي بحث عنها الاحتلال لتوجيه ضربته الثانية التي تمثّلت بالهجوم الواسع على البلدة القديمة مستهدفاً اجتماعاً لأبرز مقاومين “العرين”.
عمد الاحتلال إلى تركيز الاستهداف على “الكيلاني” ويتبعه “الحوح” من قراءة معمقة لطبيعة الشخصيات المُستهدفة، وحجم تأثيرها وحضورها، مما سيعزز قدرته على الضغط على المجموعة المقاومة، وتفتيتها تدريجياً باستخدام أدوات متنوعة، لم تقتصر على الاستهداف العسكري المباشر، بل شملت عدة أدوات ووسائل متعددة المستويات.
استحضار نماذج “كيّ الوعي” في مواجهة المدّ الثوري (الحرب النفسية)
ما إن انقشع غبار المعركة في البلدة القديمة، حتى بدأت وسائل إعلام الاحتلال في ضخ مجموعة كبيرة من الأخبار والمعلومات الموجهة التي هدفت إلى تثبيت أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر” و”اليد الطولى لـ”إسرائيل” التي تستطيع الوصول لأي شخص في أي مكان”، وإعادة “هيبة” الجيش في عقول جيل فلسطيني جديد قرر العودة لحمل السلاح والمواجهة.
استخدم الاحتلال قوة نيران كبيرة في مساحة صغيرة نسبيا، أتبعها بخطاب واسع موجّه يستعرض قوة المعلومات الاستخبارية ونوعية المجموعات النخبوية التي شاركت في الهجوم، وتفاصيل “محددة” من الاشتباك، مدّعية العديد من الوقائع، بما فيها أنّ أهداف العملية “صُممت وفق ما نتج عنها وليس العكس”.
هدف الاحتلال من خلال هذا السلوك إعادة استحضار نماذج “كيّ الوعي”، حيث يرى كبار القادة الأمنيين في الكيان الصهيوني أنّ هذا الجيل لم يتأثر بما تمّ “كيّه” في وعي الفلسطيني في إطار مواجهة انتفاضة الأقصى، وهو ما حدا به إلى إطلاق عملية دعائية كبيرة تهدف إلى إعادة تثبيت فكرة “الهزيمة” في عقول الشبان من الجيل الفلسطيني المنتفض، وإعادة ترسيخ أوهام “قدرة الاحتلال على الوصول لأي مقاوم في أي بقعة من العالم”.
تعمّد الاحتلال في اليومين التاليين للعملية العسكرية، واستكمالاً لعملية “كيّ الوعي” تنفيذ عمليات اعتقال في مدينة نابلس لعدد من المواطنين، شملت شقيق الشهيد المقاوم “إبراهيم النابلسي”، وعم الشهيد المقاوم “أدهم مبروكة” (الشيشاني)، وهم من عائلات ترسخت أسماؤها وارتبطت ببطولة أبنائها، ليثبتَ فكرة “قدرة جيش الاحتلال الخارقة” على جرح كل نماذج البطولة.
الاحتواء والتفكيك من الداخل عبر أجهزة أمن السلطة
لم تتوقف جهود الاحتواء والتفكيك التي تمارسها الأجهزة الأمنية للسلطة بحقّ مجموعات المقاومة، التي تركزت بشكل كبير في الآونة الأخيرة على “عرين الأسود” والتي بدأت باعتقال المقاوم “مصعب اشتية” ولم تنتهِ بالعروضات المتكررة لصفقات “العفو” والإغراءات المالية، والتوظيف ودفع ثمن السلاح، مقابل إنهاء حالة المقاومة.
لم تلقَ هذه المحاولات سوى استجابة توازي الصفر، إذ لم يستجب لهم سوى مطارد واحد وغير مركزي، وقد كان لقيادة العرين وتأثير المقاومين “كيلاني” و”الحوح” دور مهم في تصليب الصفوف وتفويت الفرصة على الأجهزة الأمنية لتشتيت وتفتيت الصفوف والتفكيك من الداخل، ولهم مواقف علنية واضحة بهذا الخصوص، وهو ما عجّل من أولوية استهدافهم وتحييدهم من المشهد.
على أثر العمليتين الأمنية والعسكرية التي استهدفت مفاصل رئيسية في “العرين”، والتي تلاها هجوم واسع على الوعي للحاضنة الشعبية والمقاومين، كثّفت أجهزة أمن السلطة من ضغطها، لتنجح في تحقيق اختراق بسيط عبر إقناع عدد من المطاردين بتسليم أنفسهم، وخلق حالة من الإحباط لخيار المقاومين هذا، لتحفيز آخرين على الالتحاق بهم، الذي سبق أن ساهم -هذا الضغط- بشكل فعال في تفكيك مجموعات كتائب شهداء الأقصى في العامين 2006 و2007.
“العرين” بخير والفكرة المُعمّدة بدماء الشهداء ستستمر
بالرغم من أنّ الحملة التي تستهدف حالات المقاومة، والتي تتركز الآن بشكل محدد على مجموعة “عرين الأسود”، إلا أنّ ما قدّمته المجموعة من تضحيات، كانت قيادة “العرين” تعيه تماما، وجاهزة للتعامل مع نتائجه.
صحيح أنّ “العرين” قد خسر قائديْن محورييْن ومهميْن، لكنّ الفكرة أكبر من الأشخاص، وعبر تاريخ حركة المقاومة الفلسطينية، لم تكن الاغتيالات عاملاً في إجهاض الفعل المقاوم، بل على العكس، دائماً ما كانت حافزاً للاستمرار على نهج الشهيد، بل وتصعيده والوفاء له، ولعل في حالة “عرين الأسود” نموذجاً واضحا، إذ هاجمها الاحتلال مبكّرا، واغتيال مؤسسها وأحد أبرز قادتها، الشهيدين محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح، جعلت من دمائهم الحافز الأساسي لانطلاقة واسعة لـ”عرين الأسود” خلال أشهر قليلة تحولت لأبرز مصدر تهديد للاحتلال وجيشه في الضفة الغربية، دفعت رئيس الأركان ورئيس الشاباك، وبمتابعة خاصة من رئيس وزراء الكيان، لمتابعة العمليات العدوانية ضد مقاوميها.
سيمثّل استشهاد البطلين “الكيلاني” و”الحوح” خطوة تُصلّب عود المقاومين أكثر، وتعزز التحام صفوفهم، وتزيد من يقظتهم الأمنية، وإيمانهم بطريق المقاومة، فالطريق المُعبّد بدماء الشهداء، هو طريق مستقيم وبوصلته واضحة، كما أنّ جنازة الشهداء كانت استفتاءً واضحاً وردّاً شعبياً لا لُبس فيه في احتضان المقاومين، والثبات على خيارهم رغم كل الإجراءات الصهيونية، واستكمالاً لحالة شعبية واسعة باتت ترى في “عرين الأسود” نموذجاً يجب البناء عليه وحمايته والمراكمة على فعله ووعيه وخطابه.
هذا النموذج المطلوب حمايته، وبالتالي حماية حاضنته الشعبية من الاستهداف الدائم من قِبل الاحتلال بالعقوبات الجماعية والحصار واستهداف المواطنين بقوت يومهم واقتصادهم، وهو ما يتطلب تحويل معركة “كسر الحصار عن نابلس” إلى معركة الكل الوطني والقوى الوطنية والإسلامية، وعدم ترك حاضنة المقاومة، وبالتالي المقاومين، وحيدين في معركتهم مع إجراءات الاحتلال وجرائمه المتواصلة.