رام الله - خاص قُدس الإخبارية: لم تنتهِ والدةُ قيس شجاعية (23 عامًا)، من التسليم في ركعتها الأخيرة لصلاة المغرب مساءَ الجمعة، حتى شدَّها ملامح ابنها الغاضبة يستعر صوته أيضًا عندما سألته: "مالك، صاير معك ايشي!؟" يتحرك أمامه مشهدُ سحل جنود الاحتلال لطفلة مقدسية، ومشاهد اقتحامات المستوطنين، يتساءل أمام والدته: "عاجبك اللي بصير بالأقصى!، حصار نابلس، شعفاط، اقتحام جنين؟".
طوتْ أمه سجادةَ الصلاة، واطمأنتْ على غيرةِ ابنها على وطنه، وأن غضبه ليس نتيجة شجار مع أحدهم، أعطته نظرة أوسع للواقع كما تراه: "أنت لحالك ايش بدك تغير؟، اللي بروح بتروح عليه!"، لأول مرةٍ لم يكن قيس مطيعًا لأمه، وكانت عينه على الوطن الأم؛ الغضب لا زال يملأ صوته: "الجهاد فرض علينا، واللي باستشهد ما بتروح عليه"، انفضَّ الاجتماع، ولم تركز أمه في كلامه كثيرًا، ولم توقفه عندما خرج من المنزل واستأذن منها الانصراف، سألته: "حتتأخر"، فأجاب: "لا".
أنباء تنفيذ عملية إطلاق نار قرب مخيم الجلزون تجاه مستوطنة "بيت إيل" شمال رام الله الجمعة (14 أكتوبر/ تشرين أول 2022)، خبرٌ ورد مسامع والدته وهي تتابع الأخبار والتطورات.
ربطت بين حوارها الأخير مع قيس والحدث، تذكرت كلمات ابنها وانفعاله، وغضبته الشديدة، فعرَّفت لزوجها الذي يجهل منفذ العملية، الاسم قبل الجميع: "والله؛ شكله قيس"، لم يستعد زوجها لزف ابنه شهيدًا، قبل أن يفرح به ويزوجه ويسكن شقةً جهزها له، مستبعدًا أن يكون ابنه: "لا، شو قيس".
طلب رضا أمه ومسامحته
"جلسنا قليلاً، ننتظر التفاصيل واتضاح الخبر، لكن شقيقته تعرفت عليه من تفاصيل عينيه بعدما قربت الصورة، ومن ملابسه، التي كنت قد اشترتها لإرسلها للسجن لشقيقه الأسير بهاء" تقص والدته لـ "شبكة قدس الإخبارية" تفاصيل آخر لحظات ابنها، عائدةً إلى بداية اليوم حينما أطل صباح اليوم الأخير "جلست معه وتناولنا طعام الإفطار، ثم رافقته لصلاة الجمعة، وقبلها بيوم، قال لي: "ارضِ عني وسامحيني يا أمي".
رغم صعوبة الفقد، إلا أن ما فعله قيس "يرفع رأسها"، كان الحزن يمزقُ صوتها أثناء محاولتها الثبات أمام حرمانها من نظرة وداع: "أريد احتضان ابني، واسترداد جثمانه، ضمه ورؤيته ودفنه، لكني مؤمنة أن روحه الآن عند الله"، تمر على صفاته قبل أن يقاطع حديثها المعزون: "قيس شهم، كل ناس تحبه، صاحب ابتسامة لا تفارق وجهه".
بعد سبعة أعوام من المواجهة وإلقاء الحجارة و"المقلاع" وتعرضه للإصابة والأسر قرب مستوطنة "بيت إيل"، رجع "قيس" لنفس المنطقة لكن ليس ذلك الفتى الذي يحمل حجرًا ومقلاعًا، بل مقاوماَ يخوضُ اشتباكًا مسلحًا ويطلق النار حتى ارتقى شهيدًا، اعترف الاحتلال بإصابة مستوطن.
صوت الفخر ينبعث من والده عماد شجاعية في حديثه مع "شبكة قدس"، الذي ورَّث هذه الصفات لابنه: "ما فعله قيس مفخرة ليس لأني والده، ولا لعائلته، بل بمفخرة للشعب الفلسطيني كله، لمسنا ذلك بالوفود المهنئة باستشهاده وتفاعلت مع بطولته، وهذا دلل أن الكل يفتخر فيه ويقدر العمل الذي قام فيه، فابني منذ صغره لديه شجاعة وبطولة".
"قيس" اسم علم معناه مأخوذ من "القساوة" فكان قاسيًا شديدًا على الاحتلال، واستمد من اسم عائلته الشجاعة، مدركًا أن "الشجاع يموت مرةً" فترجم ذلك بعمليته التي استشهد فيها، أما الجبان -وهنا يتجسد الوصف بجنود الاحتلال- فيموت ألف مرة"، لأنه في كل يوم وكل لحظةٍ، يتوقع جنوده أن يخرج لهم من سار على درب قيس.
فتى المقلاع
وثقت عدسات المصورين قيس وكان فتى آنذاك، يرتدي الكوفية وعصبة خضراء، يضع يده على موضع الجرح بعد إصابته، وفي اليد الأخرى يتمسك بمقلاعه ويأبى أن يتركه قرب المستوطنة ذاتها (بيت إيل) عام 2015.
لم يقفز والده عن مشهد إصابة ابنه قائلاً: "كان بالصف الحادي عشر، خرج من المدرسة أثناء حدوث المواجهات، وكانت في فترة "هبة السكاكين" بالقدس، كان مستبسلاً في مواجهة الاحتلال، رفض ترك المقلاع كما أظهرت الصور، رغم أن المسافة بينه وبين الجنود كانت قريبة، وعندما حاول الانسحاب أصابوه، واعتقلوه، يومها عرفنا باعتقاله بنفس طريقة استشهاده عندما رأينا صورته".
اعتقل قيس في عيادة سجن الرملة لمدة عشرين يومًا، ثم أفرج الاحتلال عنه، لكنه ظل يعاني من أثر الإصابة لخمسة أشهر حتى استطاع أن يسير على قدمه.
انتقال قيس من المقلاع للبارودة كان مفاجئًا لوالده: "لم أتخيل أن يحمل السلاح، صحيح أن قلبه معلق في النضال والمقاومة لكن لم أتخيل أن تصل جرأته لتنفيذ عمل مقاوم".
كأي شاب كان يحلم قيس أن يبني بيتًا ويكوّن أسرةً، ويعيش مثل باقي الشباب ويكون لديه سيارة وغيرها من أحلام أي شاب، في ذاكرة والده تعلق حوارات كثيرة خططا معًا لتحقيق حلمه، لكنه يستحضر آخر حوار دار بينها قبل ساعات من استشهاده: "رسمت له على ورقة، شكل شقة صغيرة سأقوم ببنائها له، كما اتفقت معه سابقًا، لكنه قاطعني وقال لي: "تتعبش حالك يابا، بديش اتزوج ولا ابني"، اعتقدت أنها من باب العناد والمزاح مثل عادته ولم أتخيل أن ينفذ عملاً مقاومًا لأنه منذ فترة طويلة لم يخرج حتى لرمي الحجارة".
يبتسم صوت والده بين مرارة الفقد: "امتاز ابني بالعناد، حتى أنني لدي ورشة حدادة، وعلمته المهنة، وعندما أطلب منه فعل شيء، كان يعاندني".
وقيس شقيق الأسير الإداري بهاء الدين شجاعية أحد مرابطي المسجد الأقصى المبارك، اعتقل واعتدى عليه جنود الاحتلال في شهر رمضان الماضي وأبعدوه عن المسجد، لكنه رجع للرباط للتصدي لاقتحامات المستوطنين.
اجتاز بهاء جدار الفصل العنصري رغم تعرضه لرضوض ووصل للأقصى، لكن الاحتلال اعتقله ونقله لسجن "عوفر" وحول للاعتقال الإداري، وهو أسير محرر أمضى 41 شهرًا في الأسر، وهو طالب في كلية الدعوة وأصول الدين في جامعة القدس ببلدة أبو ديس شرق القدس المحتلة.
مع توارد أنباء استشهاد قيس للسجن، التف الأسرى حول بهاء لمواساته، لكنه رفض فكرة المواساة في شهيد: "هنئوني باستشهاد الحبيب قيس فالله اصطفاه واختاره"، يعلق والده على اتصال نجله بهم: "كان ثابتًا صابرًا، وللعم تأثر قيس باعتقال شقيقه بهاء، خاصة أنه تزوج وكان فقط يذهب للرباط بالأقصى وانشغل بعمله وحياته، لكن الاحتلال اعتقله وحرمه من طفلته البالغة من العمر 15 يومًا".
لم يدخل قيس ومن قبله شقيقه بهاء المقاومة للبيت، بل ورثا حبها عن والدهم الذي اعتقل في الانتفاضة الأولى، ومن جده الذي كان من أبرز مطاردي المنطقة للاحتلال عام 1967، وهدم منزل جده "أحمد" وأبعد للأردن، في إرثٍ مقاومةٍ توارث عبر سنواتٍ طويلة، من الجد إلى الحفيد.
خبر من الصحافة عن إصابة الشهيد قيس شجاعية خلال مواجهات قبل 7 سنوات