استطاعت مجموعة “عرين الأسود” أن تحجز لها مكاناً في صدارة وكالات الأخبار وأجندة أجهزة الأمن والاستخبارات والجيش عند الاحتلال خلال مدة زمنية قصيرة، مما فتح الباب واسعاً للتساؤل حول هذه المجموعة المسلحة، التي انطلقت من البلدة القديمة في مدينة نابلس، لكنّ أثرها تجاوز حدود الضفة والقدس ليصلَ إلى كل أبناء الشعب الفلسطيني.
رغم حداثة تشكيلها وعمرها كمجموعة لها طبيعة التنظيم والهيكلية، إلا أنّ هذا لا ينطبق على أبرز المطاردين المطلوبين للاحتلال الذين يقودون المجموعة ويُعدّون الوجوه الأبرز فيها. فجزء أساسي منهم هم منخرطين في الحالة المسلحة في البلدة القديمة منذ بداية مبادرات الاشتباك والمواجهة مع الاحتلال بشكليها الدفاعي والهجومي.
النشأة
لا يوجد تاريخ محدد يُنسب له انطلاق المجموعة، إلا أنّ هناك عدة محطات رئيسية ساهمت في بلورة هوية المجموعة وطبيعتها، وأعطتها الزخم الذي أحاط بحضورها وفعلها، ولعلّ العامل الأكثر تأثيراً في ترسيخ بنى المجموعات بقوة وسرعة هو أنّ البداية كانت معمّدة بدماء الشهداء، وبالتالي فإنّ المحطات الرئيسية للمجموعات لا يمكن أن تغفل الحدث الرئيسي الذي أسهم في توسع حالة الالتحاق بمجموعات المقاومين “التي كانت في حينه محدودة العدد نسبيا” وهو حدث استشهاد الأبطال أدهم مبروكة “الشيشاني”، محمد الدخيل وأشرف المبسلط في عملية اغتيال نفّذتها القوات الخاصة لجيش الاحتلال بتاريخ 8 شباط/ فبراير 2022، حيث مثّل هذا الحدث انعطافة رئيسية أدّت لالتحاق العديد من الشبان بحالة المقاومة المسلحة التي كانت تتبلور في حينه بالبلدة القديمة في مدينة نابلس.
بالرغم أنّه لا يمكن أن يُنسب لمجموعة “عرين الأسود” وجود بشكلها الحالي في حينه، إلا أنّ حدث استشهاد الأبطال الثلاثة كان عاملاً محفزاً للخلية الأولى لـ”العرين” للتفكير بشكل جدي في إنشاء تشكيل مقاوم متأثر بشكله بأرث المقاومين في البلدة القديمة بالمدينة، وبشكل خاص مجموعة “فارس الليل” التي نشطت في مدينة نابلس والبلدة القديمة بشكل خاص في سنوات ذروة انتفاضة الأقصى وقد سجّلت رصيداً واسعاً من البطولات والعمليات الناجحة، علماً أنّ معظم مقاتلي “عرين الأسود” نشأوا على قصص وبطولات مقاومي نابلس في انتفاضة الأقصى.
استشهاد العزيزي وصبح
مع الساعات الأولى من يوم 24 تموز/يوليو 2022، كانت البلدة القديمة على موعد مع عملية مباغتة للقوات الخاصة وجيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي حاصر “حارة الياسمينة” في البلدة القديمة. تخلّل العملية اشتباكات عنيفة مع المقاومين المحاصرين، انتهت باستشهاد المقاوميْن محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح، وكانت جنازة الشهداء أول الدلالات على ارتباطهم بـ”العرين”، حيث عُصّبت رؤوسهم بعُصب بيضاء اللون كُتب عليها "عرين الأسود"، تلاها الحديث عن أنّ المحاصرين المستهدفين داخل المنزل كانوا 7 من المقاومين، الذين تمكن 5 منهم من الانسحاب تحت غطاء رصاصات رفاقهم “العزيزي” و”صبح”.
تُعتبر المجموعة التي حوصرت داخل المنزل في اليوم المذكور، هي المجموعة واللبنة الأساسية في تشكيل “عرين الأسود” التي كانت ما تزال قيد التأسيس والتبلور في ذلك الوقت، رغم أنّ عناصرها كانوا كلهم من المطلوبين الناشطين.
وهذا ما أكدته المواد الإعلامية التي بدأت تنتشر على مواقع التواصل الإجتماعي التي تُظهر مجموعة من المقاومين والسلاح برفقة الشهيدين “العزيزي” و”صبح”، حيث يُنسب للشهيد أبو صالح العزيزي الاستخدام الأول لمصطلح “عرين الأسود” والذي اعتبرته المجموعة “مؤسسها الرئيسي”.
الظهور العلني الأول
في الثاني من سبتمبر/أيلول كان الظهور العلني الأول واللافت لمجموعات “عرين الأسود” في حفل تأبين الشهيدين “العزيزي” و”صبح”، الذي نُظّم في البلدة القديمة، حيث شارك فيه العشرات من المسلحين الذين يرتدون زياً موحداً باللون الأسود، وعُصب موحدة، ويربطون فوهات بنادقهم بقطع قماشية حمراء اللون، لما فيه دلالة على عدم إطلاق النار في السماء، وتوجيه البنادق فقط لصدر الاحتلال، وأولوية الثأر للشهداء من الاحتلال.
أعلنت “عرين الأسود” عن نفسها بشكل واضح خلال الحفل المذكور، شمل إعلان متحدّث ملثّم عن انطلاق المجموعة، وأنّ الشهيدين محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح هما من مؤسسي المجموعة، وأعلنت خلاله المجموعة جملة من المحددات التي تعمل وفقها، أبرزها: عدم انخراطهم بأي لون سياسي، وتوجيه بنادقهم إلى الاحتلال فقط.
تدشين المنصة الإعلامية الرسمية
بتاريخ الـ27 من آب/أغسطس أي قبل أقل من أسبوع على تنظيم العرض العسكري وتأبين الشهداء، دشنت “عرين الأسود” صفحتها الرسمية على تطبيق “تليجرام”، حيث بدأت النشر بتاريخ 30 آب/أغسطس وأعلنت فيه المجموعات مسؤوليتها عن الاشتباك مع قوات الاحتلال في سهل “روجيب” بمحيط مدينة نابلس، تلاه في الأول من أيلول/سبتمبر الإعلان عن خوض اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال في محيط مخيّم بلاطة.
بعد الإعلان الرسمي عن انطلاق الـ”عرين” في حفل تأبين الشهيدين “العزيزي” و”صبح”، أعلنت “عرين الأسود” أنّ قناتها عبر تطبيق “تليجرام” هي المنصة الرسمية الناطقة بإسمها، تلاه مجموعة من التوجهيات نُشرت في الثالث من أيلول/سبتمبر تطلب من السكان في البلدة القديمة تنفيذ مجموعة من الخطوات للتعامل مع اقتحامات جيش الاحتلال، تشمل وضع المتاريس وإشعال إطارات السيارات وإخلاء المنازل التي يستعملها قنّاصة الاحتلال وجنوده في نصب الكمائن للمقاتلين.
توالت في ما بعد الإعلانات الصادرة عن المجموعة لتبنّي عمليات مسلحة واشتباكات يخوضها مقاتلوها.
اعتقال المقاوم مصعب اشتية
شكّل اعتقال أجهزة أمن السلطة للمقاوم مصعب اشتيه في 19 أيلول/سبتمبر المنصرم حدثاً مفصليا، حيث يُعد اشتية أحد مؤسسي مجموعة “عرين الأسود” رغم أنّه منتمي لحركة حماس وهو أسير محرر ومطلوب للاحتلال على خلفية نشاطه المقاوم.
أدى حدث الاعتقال إلى احتجاجات عارمة قادتها مجموعة “عرين الأسود” التي طالبت بإطلاق سراحه فورا، إلا أنّ تطور الأحداث الميدانية دفع المجموعات للاستجابة لجهود التهدئة، بهدف نزع فتيل الأزمة الداخلية، والإلتزام بمحددات انطلاقتها، عبر توجيه بوصلتها نحو الاحتلال، إلا أنّ هذا الحدث عكس حجم التضامن والإلتفاف الشعبي حول “عرين الأسود” والاستجابة لدعواتها، سواء بالتصعيد الشعبي أو الهدوء، ووضعها في صدارة المجموعات المقاومة الحاضرة في الميدان، وفي الحاضنة الشعبية.
استشهاد المقاوم سائد الكوني
بعد أقل من أسبوع على أحداث اعتقال السلطة للمقاوم مصعب اشتية، والأحداث التي تلتها، أُعلن عن استشهاد المقاوم سائد الكوني، فجر يوم 25 أيلول/سبتمبر، إثر اشتباك مسلح مع جيش الاحتلال قرب نابلس، حيث كان برفقة مجموعة من المقاومين في مهمة للاشتباك مع قوات الاحتلال.
نعت “عرين الأسود” الشهيد، وأعلنت أنّه أحد أعضائها وكان ضمن مهمة لمقاتليها، الذين تمكنوا من الانسحاب بعد إصابة بعض أفرادها خلال الاشتباك، وأكدت فيها أنّ الاشتباك هو جزء من عمليات الـ”عرين” المستمرة ضد قوات الاحتلال وقطعان مستوطنيه.
عكس استشهاد المقاوم “الكوني” مدى جدية مجموعة “عرين الأسود” وتوسعها في الفعل والإقدام، وخلق المزيد من الالتفاف حولها في محطيها الجماهيري سواء داخل نابلس أو خارجها.
نجحت المحطات السابقة في تقديم مجموعة “عرين الأسود” إلى الصفوف الأولى في المجموعات المقاتلة التي لم تكن ضمن حسابات أجهزة الأمن الصهيوني قبل أقل من 6 شهور، وفي فترة قصيرة نجحت ببناء قوة حاضرة جماهيريا، عدداً وعتادا، مقترنةً بخطاب سياسي واعي ويتطور، وباستخدام تكتيكات في المبادرة والهجوم والإنسحاب، إضافة لتوسيع بقع المواجهة وعدم حصرها بالبلدة القديمة، بل المبادرة إلى فتح نقاط اشتباك جديدة شملت إشراك القرى المحطية بنابلس في عملية المواجهة والاشتباك.
أهم سمات “عرين الأسود”
• لا تنتمي لأي لون سياسي، وفي ذات الوقت متصالحة مع القوى السياسية بل ومتكاملة معها، وتعمل معها وفق مبدأ التعاون البنّاء بعيداً عن الاحتواء.
• تضم في عضويتها مقاتلين من مختلف الانتماءات والتوجهات، وبشكل خاص مقاومين ينتمون إلى حركة فتح، حماس، الجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي، ولا يُعد الانضمام للمجموعة تضارب أو ازدواج في التوجه ما بين انتمائهم السياسي وتوجهاتهم الأيدلوجية وانخراطهم بالفعل المقاوم ضمن مجموعة “عرين الأسود”.
• حددت “عرين الأسود” بوصلتها بوضوح، توجيه البندقية إلى صدر الاحتلال والنأي بالنفس عن أي خلاف داخلي سواء مع أي مكون سياسي، أو حتى مع السلطة وأجهزتها “رغم الاستهداف المتكرر”.
• نأت المجموعة بنفسها عن أي سلوك سلبي لبعض المسلحين بدءاً من إطلاق النار بالهواء، وليس انتهاءً بأي عمليات “بلطجة” أو استخدام للقوة في تحقيق مكاسب غير شرعية.
• تُولي المجموعة اهتماماً خاصاً لبناء بيئة شعبية محيطة صديقة ومقاومة، تساهم في خلق جبهة داخلية مقاومة تحمي المقاومين وتحضنهم، وبنفس الوقت تستثمر أدوات المقاومة الشعبية في تشتيت مخططات الاحتلال وإعماء جيشه.
• تتمتع المجموعة بوعي متنامي وقراءة المشهد السياسي للاحتلال، وإدراك لأهم المحطات القادمة وتأثيرها على سلوكها، سواء بملف الإنتخابات أو موسم الأعياد أو الخلاف بين مكونات المشهد السياسي الصهيوني.
• تحاول المجموعة بلورة خطاب وطني جمعي يحمل صيغة التعبئة الثورية للجماهير.
• تحمل المجموعة في طياتها بذور التوسع وعدم الإنحصار الجغرافي في نابلس، بل وتعمل على تحفيز بناء نماذج مشابهة في المدن الفلسطينية الأخرى بالضفة الغربية والقدس.
• تربط “عرين الأسود” فعلها وتصاعد عملياتها بسلوك الاحتلال وعدوانه على الشعب الفلسطيني، مثل الرد على اقتحامات جنين، وإطلاق سلسلة الغضب على اقتحامات الأقصى، وإسناد أهل مخيّم شعفاط في مواجهتهم للحصار.
• تعمل المجموعات على توسيع وتعداد نقاط الاشتباك، واستثمار الطبيعة الجغرافية لنابلس في تنفيذ ضربات خاطفة ومؤثرة تستهدف تجمعات الاحتلال ومستوطنيه.
خلاصة
تقدّم مجموعة “عرين الأسود” نموذجاً متقدّماً في الحالة المقاومة الناشئة حديثا، يعمل بطريقة مغايرة ساهمت في إحداث نقلة في العمل المقاوم وبشكل خاص المسلح في محافظات الضفة الغربية، استطاعت فيه “العرين” أن تشقّ طريقاً جديداً يتعامل مع متطلبات الواقع الذي تغيب فيه البنى التنظيمية التقليدية عن الفعل بسبب الاستهداف الصهيوني المتكرر والواقع السياسي المأزوم فلسطينيا، وفي ذات الوقت تستثمر العلاقة مع الخلفيات السياسية والتنظيمية لعناصرها في الوصول لخطوط الدعم والإمداد الممكنة من كل مكونات الحالة الفلسطينية دون السماح باحتوائها، أو دخولها في معترك الاستثمار الفصائلي، واستطاعت أن تكسب حضوراً شعبياً مميزاً والتفافاً مجتمعيا، لم يعد مقتصراً على البيئة الضيقة لمكان منشأ المجموعة في “البلدة القديمة” بل تعداها ليشمل كل الشعب الفلسطيني الذي يتابع ويتفاعل مع كل رسائل ومواقف وفعل المقاومين في “عرين الأسود”
تتميز المجموعة بكونها ترفض أن تبقى محدودة جغرافيا، وتقدّم رسائل التحفيز الذي قد يصل إلى التجنيد والتشبيك المباشر مع مقاومين آخرين في مدن أخرى في الضفة المحتلة، وهذا ما عكسه بيانهم الذي ذكر 4 نقاط لعمليات مسلحة، منها نقطتان في مدينة رام الله شملت كلاً من معسكر “عوفر” وحاجز “بيتونيا” الاحتلاليين، وهو ما يعطي إشارة حول مدى جدية المجموعات في توسيع نطاق نشاطها وعملها بحيث تتحول تدريجياً للشكل الجديد للمقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، ولربما هذا طموح، إلا أنّ تحقيقه وسط بيئة مهيّأة لا يتطلب سوى المزيد من التحفيز للمئات من الشبان الفلسطينيين الذين يبحثون عن وسيلة للمبادرة والانخراط الفاعل في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال.
في حال نجحت “عرين الأسود” في الصمود في وجه محاولات التفكيك والاحتواء التي تقوم بها أجهزة أمن السلطة، والاستهداف التدريجي والعقوبات الجماعية التي ينفّذها الاحتلال والتي تسعى في جوهرها إلى استنزاف المقاومين وتأليب بيئتهم الداخلية ضدهم، فإنّ هذا الصمود سيساهم في توسيع وتطوير تواجد حالات المقاومة وتنظيمها وهيكلتها، وتطوير أداوات وتكتيكات فعلها بما يحقّق أفضل جدوى ممكنة في استهداف معسكرات ومواقع الاحتلال ومستوطنيه.