شبكة قدس الإخبارية

شقيقته تروي لـ "قدس" محطات من حياته

عبد الرحمن خازم.. استقبل جنود الاحتلال بـ "مصيدة الموت"

309432685_620162859556303_3339874783003476135_n
يحيى موسى

جنين - خاص قدس الإخبارية: "سر في جنين واخلع نعليك، أنظر لعيون شبابها وحِدتها، ترى كل شابٍ قد هيأ نفسه أن يكون جسده مستقر الرصاصة القادمة، تجد من لا يهابون الموت، إنما يرجون الشهادة".. دعوة تأمل كتب عنها عبد الرحمن خازم على صفحته بموقع "فيسبوك"، رسم بها نمط الحياة في مخيم جنين الذي يصفه جيش الاحتلال بأنه "عش الدبابير"، فلا أصوات غناء تعلو على أصوات مآذنٍ مساجدٍ لا تتوقف عن نعي الشهداء، ولا عن رصاص أسلحة يستلها المقاومون.

تتجول عينا عبد الرحمن في أرجاء المخيم وتنقلُ صورةً عن حال شبابه: "لم نعد نسمع في جنين السيارات ذات المسجلات العالية إلا على و"مضى الرجال" أو "زفيني جيتك شهيد" (..) سِر في جنين لِترى كيف تَوَرث الرجولة".

أول أمس الأربعاء (28 سبتمبر/ أيلول 2022)؛ بينما كانت أنباء اقتحام المخيم تتوارد على وسائل الإعلام، لحظة اقتحام قوات كبيرة من جيش الاحتلال لجنين، كان قلب شقيقته وعد خازم وهي متزوجة بمحافظة الخليل، يعانق قلوب أفراد عائلتها، ويستعر قلقًا من بطش جيش الاحتلال عندما بدأ اسم شقيقها عبد الرحمن يتصدر حديث وسائل الإعلام العبرية ومواقع التواصل الاجتماعي.

توقع عبد الرحمن قدوم قوات جيش الاحتلال في أي وقتٍ، ففخخ منزله، وعندما شعر بوجودهم حوله، انسحب من المنزل وفجره، وخاض اشتباكه الأخير، وارتقى شهيدًا برصاصة قناصٍ، برفقة رفيق دربه محمد براهمة "ألونة".

"النهاية" كلمة بحروفٍ عبرية من دماء عبد الرحمن خطها جنود الاحتلال على جثمانه، كرسالة وجهت لكسر قلب والده فتحي خازم، لكن الأب ظهر أكثر صلابة، يلتف حوله أبناء المخيم الذي نكست فيه راية الحزن حدادًا على أرواح أربعة شهداء ارتقوا خلال عدوان استمر ثلاث ساعات.

مصيدة الموت

"لم نره في يوم استشهاده ولكن تحدث معنا قبل أيام قليلة على مواقع التواصل وكان يطمئن علينا ويطمئننا على نفسه، وسمعنا من أصدقائه أنه في يومه الأخير كان قد صلى الفجر في جماعة كما يفعل في كل يوم وعاد إلى منزله بعد الشروق، وكان قد قام بتجهيز بيته وتفخيخه بالعبوات الناسفة ككمين لجيش الاحتلال توقعا منه دخولهم في أي لحظة" تروي شقيقته وعد خازم آخر اللحظات لـ شبكة "قدس الإخبارية" وتقص شريط حكاية بطلٍ جديد أسرج مخيم جنين دماءه للأقصى.

تضع النقطة الأخيرة في رحلة مطاردة الاحتلال لشقيقها، وتسدل ستار آخر لحظةٍ له في الدنيا "عندما تيقن أخي أنهم في محيط منزله قام بتفجير العبوات، والانسحاب من المنزل ولكن جرى استهدافه من قبل القناصة واستشهد هو ورفيقه محمد براهمة "ألونة".

ضابطٌ من جيش الاحتلال في القوة المقتحمة، اعترف أنهم وقعوا بما وصفه "مصيدة الموت"، وأضاف متحدثاً عن لحظات وصول القوة إلى منزل المطلوبين المستهدفين "أعدوا لنا مصيدة الموت فقد فخخوا مدخل البيت وفي اللحظة التي اكتشفوا وجودنا فجروا 4 عبوات تحتوي على عشرات الكيلوغرام من المتفجرات فانفجرت بقوة لا أذكرها بحياتي ".

لكن سبقت تلك المحطة رحلة مقاومة ومطاردة طويلة، لم تجهل شقيقته تفاصيلها "أحب عبد الرحمن المقاومة حتى قبل استشهاد أخي رعد في إبريل/ نيسان الماضي، وعندما استشهد رعد زادت أمنيته بالشهادة، وكانت العلاقة بينهما قوية، مليئة بالود والحب الأخوي".

رثى عبد الرحمن شقيقه رعد على صفحته على "فيسبوك"، ونشر صورةً يرتدي فيها بدلة رسمية وربطة عنق تجمعه بشقيقه، والاثنان يحملان السلاح، امتزجت كلماته بالشوق والحزن والفخر في آن واحدٍ، عندما غزل قلبه كلمات دافئة: "كم أفتقدك يا أخي .. يا شهيد الوطن!"، كم أتمنى لو أُقبِل يديك الطاهرتين للمرة الأخيرة وقد كستهما الدماء يوم رحيلك؛ دماءٌ طاهرة زكية.. أخي الغالي عيدك بالجنة أحلى".

لم يطل الفراق، فترجل عبد الرحمن عن صهوة الشجاعةِ، وجاورت روحه رعد، تعلق شقيقته على ادعاء جيش الاحتلال أن عبد الرحمن شارك بعملية رعد، وأوصله لفتحة الجدار التي ذهب منها إلى (تل أبيب) وساعده في شراء البندقية، نافيةً جزءًا من "تلفيق جيش الاحتلال": " هو صحيح كما أخبرنا أنه قام بإيصاله لفتحة الجدار، ولكنه لم يكن لديه علم أنه ذاهب لتنفيذ العملية".

وجه مستدير، وعينان واسعتان اتسعتا لحب فلسطين، ولكره الاحتلال تتقد نيران ثورة لم تنطفئ إلا عندما هدأت آخر أنفاسه، صاحب ملامح هادئة وحادة في نفس الوقت "كان أخي لا يهاب الاحتلال، قوي القلب شجاع مقبل غير مدبر لا يخشى إلا الله ".

شخصية مختلفة

في البيت لم ترَ شقيقته سوى "عبد الرحمن حنون" طيب القلب، صاحب نكتة، كريم يفرح لفرحنا ويحزن لحزننا، ونحن متزوجات خارج جنين، عندما كان يسمع بوصولنا لجنين كان يتلهف لاستقبال، ويحضر لنا الهدايا، ويصطحبنا لمناطق ترفيهية ليسعد قلوبنا".

 

منعت المطاردة عبد الرحمن من زيارة شقيقاته، لكنه لم ينقطع من التواصل معهم والاتصال بهن، ومنذ استشهاد رعد، يعاقب الاحتلال العائلة على انجابه، فتعرضت للمطاردة والتشرد، لم تجتمع في لمة واحدة إلا في عيد الأضحى "بعدها لم أستطع زيارتهم كثيرا بسبب أوضاعهم فقد كانوا يخافون أن تحصل اقتحامات أثناء تواجدنا في جنين".

ورث عبد الرحمن ورعد صلابة والده، الذي ربط على قلبه حبالا من الصبر، وهو نفس ما ورثته شقيقته "إن كل ما حصل لنا من معاناة واستهداف وتشرد، هو فداء للوطن، وما حصل معنا يحصل مع جميع أهالي الشهداء في فلسطين، وما لنا إلا أن نقول الحمد لله دائمًا وأبدًا".

لم يذرف والدها دمعةً واحدةً، دائمًا يخرج يشحذ الهمم، بكلمات صابرة محتسبة مليئة بالإيمان "هدموا بيوتي، وقتلوا أبنائي ولكنهم ليسوا بقتلى، والله مولانا ولا مولى لهم، ونحتسب أولادنا عنده شهداء، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، إني راض عن عبد الرحمن فأرضَ عنه".

كانت دموعه تجري من العين إلى الداخل نحو القلب لا يذرف دمعة أمام أحد، تقرأ شيماء (شقيقة عبد الرحمن الثانية) شخصية والدها: "كان أبي يحب عبد الرحمن كحب أي أب لابنه، منذ عرفت أبي وهو شخص قوي وصلب، ولكن بداخله لا بد أن يخفي الحزن عنا، أتذكر عندما كنت صغيرة سألته: لماذا لا تبكي عند مرضنا أو بكائنا، فأجبني: ربما عيناي لا تبكي عليكم ولكن قلبي يبكي"، تعود من الماضي للواقع المرير: "عندما كبرت فهمت معناها، وهذا حاله اليوم قلبه يبكي أخوتي".

عام 2018 اعتقل الاحتلال عبد الرحمن بسبب مقاومته واتهامه بإلقاء عبوات محلية الصنع، وأمضى سنة ونصف في سجون الاحتلال، لم تستطع زيارته في السجن، لكن عند خروجه روى لهم بعضًا من ذكريات الاعتقال، تتوقف عند أحدها " وضعه الاحتلال في عزل انفرادي، وطلبوا منه رسم ما يحصل في المخيم من مقاومة، فقام برسم شجر وورد وفراشات وحمامات السلام، لكي لا يثبت شيئا ضده، حتى يبرئ نفسه من التهمة كونه متأكد أنهم يحاولون إدانته بأي طريقة".

تسجل شكرها لمن التف حولهم "نشكر كل إنسان، حر، شريف، وقف ودافع عن والدي ووطنه، ورحم الله شهدائنا".

الأسير المحرر محمد علان، الذي عاش مع عبد الرحمن ثمانية أشهر في نفس القسم في سجن "مجدو"، قبل أن ينتقل الأول لسجن آخر، عرفه بأنه صاحب شخصية حادة مع إدارة سجن الاحتلال، كان الأسرى يراهنون عليه أولاً، "سرعان ما تتلاشى هذه الحِدة مع الأسرى، فلا تفارقه ابتسامة ترسم على ملامح وجهه طيبة وفكاهة وودًّا لهم".

"اعتدت وحدة القمع على أحد الأسرى، وتداعى أسرى القسم للدفاع عنه" هذا ما تستحضر ذاكرة علان من تلك التجربة التي جمعتهما خلف قضبان سجن واحد، يكمل بقية التفاصيل: "رأيت يومها عبد الرحمن في الصفوف الأولى وهو يدافع عن الأسير، وبسبب صموده وقوته وشجاعته استطعنا تثبيت الأذان داخل السجن" واصفًا إياه "بالفارس الأول ورأس الحربة في انتزاع قرار من إدارة سجون الاحتلال بالقبول، وكل الأسرى يشهدون بتضحياته".

#جنين #عبد_الرحمن_خازم