شبكة قدس الإخبارية

الأبطال الثلاثون... يقرعون بأمعائهم جدرانَ الزنزانة لوقف الاعتقال الإداري

60ae5238-8016-4212-8017-b419d72422a8
أحمد الطناني

"نَشرع اليوم بإضرابٍ مفتوحٍ عن الطعام، مطلبُنا هواء نقي، وسماء بلا قضبان، ومساحة حرية، ولقاء عائلي على مائدة".

بهذه الفقرة افتَتَح ثلاثون أسيرًا في سجون الاحتلال بيانَهم الذي دشَّنوا فيه دخولَهم في إضرابٍ مفتوحٍ عن الطعام، رفضًا لاستمرار اعتقالهم في سجون الاحتلال تحت بند الاعتقال الإداري، تلك السياسة التي وَصَفَها الأسرى بأنها تهدف إلى "سلخهم عن واقعِهم الاجتماعي، ودورِهم الوطني والإنساني، وتحويلهم لركام".

يعِي الأسرى المضربون، تمامًا، أن خطوتَهم لن تكُون نُزهة، وأنها ليست مناوَرةً بهدف تحسين شروط الاعتقال، بل إنها معركةٌ بالمعنى الكامل للكلمة، ثمنها لن يكون ما يَنتج عن الإضراب عن الطعام ومواجَهة المعدة لصلف السجان من آثار صحية فقط، بل تُضاف إليها سياساتٌ انتقاميةٌ عدوانيةٌ ستلجأ لها إدارة السجون الصهيونية، لكسر هذا الإضراب، بوسائل ستتنوع ما بين العزل، ومصادرة الاحتياجات الأساسية، والتضييق، والاعتداء الجسدي، والعزل عن وسائل الإعلام والتواصل مع العالم الخارجي لمنع إدراك ما يَدور، ومحاولة شقِّ الصفوف بين المضربين وتحقيق اختراقاتٍ لكسر حلقة الإضراب وتماسكه.

أهمية الخطوة النضالية

تقع الأهمية الأساسية للخطوة النضالية الكبيرة، التي اتَّخذها ثلاثون أسيرًا من أسرى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في أنها تنقل حالةَ الإضراباتِ الفرديةِ التي سطَّر فيها الأسرى بطولاتٍ وصمودًا أسطوريًّا في مواجهة الاعتقال الإداري، إلى مستوى جديدٍ هو الإضراب الجماعي، لكسر حلقة الاعتقال الإداري الإجرامي.

يعِي الأسرى جميعًا أن الاعتقال الإداري سياسةٌ انتقاميةٌ غيرُ مرتبطةٍ بحدثٍ محدَّد، مثل تنفيذ عملٍ كفاحيٍّ معيَّنٍ أو الانخراط في تشكيلات المقاومة أو قيادتها على غرار التهم التي يحاكِم بها الاحتلالُ المقاومين والمناضلين، بل إنها سياسةٌ تهدف إلى حجبِ مجموعةٍ كبيرةٍ من مناضِلي شعبنا عن محيطهم الاجتماعي والجغرافي، ومنعِ كلٍّ منهم من ممارسة حياته بشكل طبيعي، ودون سقفٍ اعتقاليٍّ محدَّدٍ أو حُكمٍ ذي نهاية، بل إنه انتقامٌ موجَّهٌ لا هدف له سوى تحطيم الشخصية النضالية وتذكيرها الدائم بأنها ستبقى تحت سطوة الجلاد الصهيوني.

من هذا المنطلق ومن هذا الوعي المدرِك لحجم معركة الردع وكيِّ الوعي، التي يحاول الاحتلال تثبيتَها في وجدان شعبنا ومناضليه بسياساته الانتقامية التي يُشكِّل الاعتقالُ الإداريُّ جزءًا منها، اتَّخذ الرفاقُ الأسرى قرارَهم بفتح المواجهة مع هذه السياسة التي غابت عنها فلسفةُ المواجهةِ الجماعيةِ مقابل مجموعةٍ كبيرةٍ من المواجهات الفردية البطولية.

قرعُ جدرانِ الخزانِ "لتتوقَّف سياسة الاعتقال الإداري"

يَقرع المضربون اليوم جدرانَ الخزانِ بأمعائهم، ليقولوا للاحتلال، ولشعبنا، ولأحرار العالم، إن هذه السياسة يجب أن تنتهي، وإن الاعتقال الإداري أحدُ أشكالِ القهرِ التي يعتمدها الاحتلال بحقِّ المناضلين، وإن مواجهته من أولويات النضال الوطني، لتحصين شعبنا وحمايته من استمرار سلسلة الاستهداف المركَّز الهادف لمنع استنهاض قوى شعبنا وتنظيمها للانتفاض في وجه آلة القتل والبطش الصهيونية.

إن هذه الخطوة التي بدأها الأسرى الثلاثون يجب ألَّا تتوقَّف عندهم، بل يجب أن يُشكِّل إضرابُهم نقطةَ الانطلاق لمشروعٍ نضاليٍّ كبير، تنخرط فيه مستويات الفعل الفلسطيني كافة، مسنودًا بحراكاتٍ عربيةٍ ودوليةٍ من أحرار العالَم وأصدقاء شعبنا، لملء العالَم ضجيجًا بقضيةٍ يَخترق فيها الاحتلالُ كلَّ القوانين الدولية والأعراف والمعايير والمواثيق الإنسانية بالاحتجاز التعسفي لنحو ألف فلسطينيٍّ دون أي وجه حق، بل فقط لرغبةٍ انتقاميةٍ لكيانٍ مجرمٍ يتغذَّى على عذابات أبناء الشعب الفلسطيني.

يتطلب هذا التحركُ إسنادًا واسعًا يَحمل قضية الاعتقال الإداري لتحويلها إلى قضية رأي عام دولي، تُستخدَم فيها كلُّ وسائل التحرك، الشعبي والدبلوماسي الرسمي، والدبلوماسي الشعبي، والقانوني، لملاحقة قادة الاحتلال ومحاصرتهم ومحاكمتهم على جريمتهم المستمرة منذ عقود بحقِّ الآلاف من الفلسطينيين الذي عانَوا من سياسات الاحتلال الإجرامية، لا سيَّما عمليات الإعدام البطيء والتدمير الممنهَج للآلاف من مناضلي الشعب الفلسطيني في غياهب السجون الصهيونية.

الاعتقال الإداري، حقائق وأرقام

الاعتقال الإداري: اعتقالٌ دون تهمةٍ أو محاكَمة، يَعتمد على ملفٍّ سِرِّيٍّ وأدلةٍ سِرِّيَّةٍ لا يمكن للمعتقَل أو لمحاميه الاطِّلاع عليها، ويمكن حسب الأوامر العسكرية الصهيونية تجديدُ أمرِ الاعتقالِ الإداريِّ مرَّاتٍ غير محدودة، إذ يُستَصدَر أمرُ اعتقالٍ إداريٍّ لفترة أقصاها ستة شهور قابلة للتجديد.

تَستخدم سلطاتُ الاحتلالِ هذه السياسةَ استخدامًا متصاعدًا منذ السنوات الأولى لاحتلالها الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، وقد شهدت سنوات الاحتلال الأولى ارتفاعًا ملحوظًا في أعداد المعتقلين إداريًّا، فيما ترتفع وتيرة الاعتقال وتنخفض ارتباطًا بالوضع السياسي والميداني في الأراضي الفلسطينية، فكلَّما شعرَ الاحتلال بوجود بوادر تحرُّكٍ انتفاضي، عمدَ إلى توسيع حملات الاعتقال الإداري بشكل كبير جدًّا.

لا تَستهدفُ سلطاتُ الاحتلالِ ناشطي المقاومة والتنظيمات بالاعتقال الإداري فقط، بل إنها توسِّع دوائرَ الاستهدافِ بما يشمل إصدارَ أوامرِ اعتقالٍ إداريٍّ بحقِّ شرائح مختلفة من المجتمع الفلسطيني، مثل نشطاء حقوقيين، وعُمَّال، وتُجَّار، وطلبة جامعيين، ومُحامين، وأمَّهات معتقَلين، وهُم -في غالبهم- لا تستطيع سلطاتُ الاحتلالِ توجيهَ تهم محددة لهم، لذلك تعمد إلى استهدافهم بالاعتقال الإداري.

بحسب تقريرٍ لصحيفة "هآرتس" العبرية، فإن عدد المعتقَلين الإداريين في سجون الاحتلال يبلغ 723 معتقَلًا، وهو العدد الأعلى منذ العام 2008، إذ يُشكِّل المعتقَلون الإداريون 15% من مجمل الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، أي ضعف نسبتهم في العام 2008، إذ كانت 8%.

تصاعُد الاعتقال الإداري وأهمية توقيت الإضراب

يأتي الإضرابُ في توقيتٍ دقيقٍ لاعتباراتٍ عدة، أهمها أنه الخطوةُ الأكبرُ لمواجهة الاعتقال الإداري المتصاعد بشكل كبير، منذ الخطوة الكبرى في العام 2014 التي شارَك فيها مِائةٌ من الأسرى الإداريين في حينه بهدف تقييد عمليات الاعتقال الإداري.

تأتي الخطوةُ مكمِّلةً لسلسلةٍ كبيرةٍ من الإضرابات الفردية البطولية التي خاضها العديد من الأسرى الإداريين، لكسر اعتقالهم الإداري ووقف عملية الاحتجاز التعسفي والتمديد المستمر من الاحتلال، إذ ساهمت الإضرابات الفردية في زيادة الايمان بأهمية وضع حدٍّ لهذه السياسة الإجرامية، وسلَّطت الضوء على معاناة الأسرى الإداريين المستمرة، ومهَّدت الطريقَ لخطوةٍ أكبر بادَرَ فيها أسرى "الشعبية" على أمل أن تكُون شرارةً لإضرابٍ شاملٍ لكل الأسرى الإداريين في سجون الاحتلال، بهدف إغلاق هذا الملف مرَّةً واحدةً وإلى الأبد.

يأتي الإضرابُ في ظرفٍ سياسيٍّ وميدانيٍّ دقيقٍ جدًّا، إذ تشتعل ساحة الضفة الغربية والقدس المحتلتَين بمواجهاتٍ يومية، وموسم أعياد صهيوني يتخلله عددٌ كبيرٌ من الإنذارات الساخنة حسب تقديرات المستويات الأمنية الصهيونية، إضافةً إلى دنوِّ موسم الانتخابات الخامسة للكنيست الصهيوني في نوفمبر القادم، بالتالي فإن الاحتلال يحاول قدر الإمكان خفضَ مؤشراتِ التصعيدِ لتمرير محطاتِه الرئيسيةِ دون المخاطرة باندلاع مواجهةٍ شاملةٍ مع الفلسطينيين.

يُشكِّل الإضرابُ محفِّزًا للمزيد من الحراك الجماهيري المشتبِك مع الاحتلال، سواءٌ في الضفة الغربية أو في القدس، أو في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، إذ تُشكِّل قضيةُ الأسرى إحدى أهم قضايا الإجماع الفلسطيني التي تَحملها الجماهير الفلسطينية، ويُشكِّل عددُ الأسرى المضربين وتنوِّعُ أعمارِهم وأماكنِ سكنهم عاملاً مدعِّمًا لانطلاقِ أوسعِ انخراطٍ في الفعاليات المسانِدة للإضراب، ما يعني المزيد من الضغط على الاحتلال المُستنزَف أصلًا بفعل عوامل التوتر الموجودة سلفًا في ساحات الضفة والقدس والداخل المحتل.

خاتمة

يُشكِّل إضرابُ الأسرى الثلاثين فرصةً مهمةً لتبنِّي سياسةٍ وطنيةٍ مسانِدةٍ للأسرى، بهدف مواجهة الاعتقال الإداري والعمل على إيقافه وإغلاق فصل مؤلم من فصول الإجرام الصهيوني بحقِّ أبناء الشعب الفلسطيني، وكي تتحوَّل هذه الفرصةُ إلى حقيقةٍ راسخةٍ يحتاج الأسرى الأبطال المضربون إلى العمل على ثلاثة مستوياتٍ رئيسةٍ لتشكيل أوسع حالة إسناد، تبدأ في حلقتها الأولى بالتحرك الشعبي الواسع والشامل لتحقيق أقصى ضغط على الاحتلال، الذي يحاول كبح مؤشرات التوتر المتصاعدة في المنطقة لتمرير مواسمه المهمة دون تصعيدٍ يخلط كل الأوراق في المشهد.

في المستوى الثاني، يحتاج هذا التحركُ الشعبيُّ إلى انخراطٍ وإسنادٍ على الصعيدين الفصائلي والرسمي، يعملان على حَملِ قضية الاعتقال الإداري وتقديمها إلى أولويات المواجهة، وتسخيرِ كل الطاقات الإعلامية والتحشيدية، من أجل تسليط الضوء على الإضراب وجريمة الاعتقال الإداري، والتحركات الشعبية الإسنادية.

أما المستوى الثالث، فالعمل على حشدِ طاقاتِ شعبنا وأصدقاء العالَم لنقل قضية الأسرى الفلسطينيين إلى كل محفل وشارع وزقاق، في الدول التي تدَّعي مساندتَها لحقوق الإنسان والتزامَها بالمواثيق الدولية، لتشكيل أوسع جبهةٍ دوليةٍ تضغط على الاحتلال وتسند الأسرى المضربين في معركتهم العادلة.

سيتكلَّل الإضرابُ بالنجاح بعزيمة الأسرى المضربين أولًا، وبمدى ومستوى الالتفاف الشعبي الفلسطيني والدولي حولهم وحول مَطالبهم بالحُرِّيَّة، فقط الحُرِّيَّة.

المجد للأبطال الصامدين.. نضال أبو عكر، إيهاب مسعود، عاصم الكعبي، أحمد حجاج، ثائر طه، رامي فضايل، لطفي صلاح، صلاح الحموري، غسَّان زواهرة، كنعان كنعان، أشرف أبو عرام، غسَّان كراجة، صالح أبو عليا، عوض كنعان، ليث كسابرة، صالح الجعيدي، باسل مزهر، مجدي الخواجا، جهاد شريتح، هيثم سياج، مصطفى الحسنات، عزمي شريتح، محمد أبو غازي، أحمد الخاروف، نصر الله البرغوثي، محمد فقهاء، تامر الحجوج، رعد شمروخ، زيد القدومي، سنار حمد، وإن الحرية حتمًا موعدهم.

 

 

#الأسرى