جنين - خاص قُدس الإخبارية: شابٌ هادئ، صامتٌ، كتوم السر، غامضٌ، يحبُ الحياةَ وهو لاعب كرة قدم في فريق "كفردان" غرب جنين، جنديٌ بجهاز الاستخبارات العسكرية الفلسطينية، أحمد عابد (23 عامًا) عاش حياة كانت فلسطين تمثل له فيها تدفق الدم في عروقه ونبض قلبه، واختار أن يكون مقاوما ومشتبكا في كل مرة يقتحم فيها جيش الاحتلال، جنين، فاختار أن يكون مقاوما استثنائيا.
أدرك أحمد وهو وحيد والديه من الذكور ولديه أربع شقيقات، أن الفراق سيكون صعبًا على عائلته، لكن لم يكن هذا سببًا يدفعه للتقاعس عن المقاومة، هذا كله دونه على ورقة، كسر بياضها حروفٌ زرقاء خطتها يداه حينما طلب من إحدى شقيقاته مساءَ الثلاثاء (الثالث عشر من سبتمبر/ أيلول الجاري) أن تحضر له ورقةً وقلمًا، وبينما كانت هي تجهل السبب، كان هو يخط ورقته الأخيرة.
تنبعث رائحة الشجاعة من بين حروفه: "أكتب وصيتي هذه وأنا مقبل على الشهادة في سبيل الله، لأن الشهادة هي أفضل شيء ممكن أن نتقرب به إلى الله، والله إني اخترت هذا الطريق لإعلاء كلمة التوحيد، وأن نرفعها خفاقة عالية وأن أقتل في سبيل الله شهيدًا".
التقط أحمد صورة تذكارية مع شقيقاته، مرَّ الأمر عاديًا لكنه ترك لهن اعترافًا منه بحبهن في وصيته: "إلى أخواتي أنتن جمعيًا تعرفن ما مدى حبي لكن ولكن حبي لربي أغلى وأكبر من كل شيء، فقد أمر ربنا بأن نجاهد في سبيله فإن لم نجاهد نحن فمن سيكون؟، ويجب أن ندرك أن القضية الفلسطينية ليست قضية سياسية وإنما قضية عقائدية".
فجر الأربعاء، 14 سبتمبر/ أيلول 2022، استدرج أحمد وابن خالته عبد الرحمن عابد وكلاهما كم كفردان غرب جنين، دورية لجيش الاحتلال في محيط حاجز الجلمة شمال جنين، وأعدا كمينًا محكمًا، تقدم الجنود صوبهما من أجل اعتقالهما لكن الجنود تفاجأوا بوابل كثيف من الرصاص أطلقه الشابان، اندلعت على إثرها اشتباكات عنيفة بالمكان، وأرسل جيش الاحتلال تعزيزاته، وكذلك سيارات الإسعاف التي نقلت ضابطًا اعترف الاحتلال بمقتله خلال الاشتباكات بينما ارتقى الشهيدان.
ظل أيمن عابد (والد أحمد) يتابع الحدث عن كثب كأي فلسطيني، بعدما أصبح الاشتباك حديث الجميع ووسائل الإعلام الفلسطينية والإسرائيلية،. يترقب التفاصيل، يثني على بطولة الفدائيين، ولم يعرف أن المنفذ هو فلذة كبده، إلا حينما اتصلت مخابرات الاحتلال على هاني عابد (والد الشهيد عبد الرحمن) تطلب منه الحضور للتعرف على جثمان ابنه.
إشارات لم يفهمها الأب
يعيد والد أحمد رسم تفاصيل يوم ابنه الأخير في حديثه لشبكة "قدس الإخبارية" وهو يعقد حبال الصبر على صدره معلنًا رضاه بعد أن قدم وحيده، قائلاً: "أمضى أحمد يومه الأخير طبيعيًا، لم يشعرنا مطلقًا أنه سيغادرنا، رغم أنه أرسل إلينا عدة إشارات لم أفهم المغزى منها إلا بعد استشهاده، بعدما أعدت تحليل الأحداث وربطها وأنا أراجع ذكريات اليوم الأخير له".
ينتقل الأب لمحطة أخرى في لحظات ابنه الأخيرة، ولا زال صوته يرتدي ثوب الصبر "اتصلت به والدته، عندما كنا على مائدة الغداء، تسأله: "بدك نستناك، ولا أرفعلك طعام!؟" فأصرَ أن ننتظره وأن يأكل معنا، لم يتأخر وكنا سعداء في لمتنا على المائدة، وذهبت بعدها لمساعدة أخي في أرضه وعدتُ مساءً، جاءني ورتب على كتفي وهو يدخل، ممازحا: "رد على مرتك وروح احلق اليوم، يمكن بكرا بجوز تقدرش تحلق!".
تمر من أمامه صورة أحمد لحظة الصورة الجماعية التي التقطها مع والدته وشقيقاته: "كنت سأدخل في إطار الصورة معهم، لكن أمي وهي كبيرة في السن نادت علي، فنزلتْ للأسفل، وبدلت لها اسطوانة الغاز، واحتسيتُ كأسًا من الشاي معها، ثم نزل أحمد وجلس معنا (..) في يومه الأخير لم يخرج من البيت".
في نفس اليوم، نادت عليه أخته زينة (عامان) واشترى لها من البقالة وأخذ يلاعبها، ثم اصطحب ابن عمه غيث (عام ونصف العام) إلى البقالة أيضًا.
لم يتأخر عن دوامه
أعاد أحمد مبلغًا ماليًا كان قد استلفه من شقيقته في يومه الأخير، يتحرك صوت والده مرة أخرى "بعدما عاد من البقالة جلس معنا نصف ساعة، ثم طلب الإذن ليذهب لحضور مباراة في كرة القدم، فلم أنتبه لشيء كونه لاعبًا بفريق المنطقة، لكنني انتبهت أن عليه دوام في عمله بالاستخبارات، فقال لي: "بجوز ما أطلعش، على أساس بدي أبدل الشفت مع زميل آخر، مش متأكد!"، فسمعته والدته وقالت له: "طالما بدك تطلع وتسهر، بدي أروح على بيت سيدك"، لكنه رفض ذلك وألح عليها عدم المغادرة: "بدي أرجع أسهر معك، أمانة لا تروحي، بدي أصل شوي وارجع".
في نفس اليوم، زار عائلة الشهيد شوكت عابد (استشهد في إبريل/ نيسان الماضي)، سأل عن ديونه، وكانت مبالغ رمزية للبقالة قام بسدادها، فاتته صلاة العشاء جماعةً، "فوصل المسجد وكانت آخر مجموعة تريد الخروج، قد تركت له الباب مفتوحًا، فصلى قرأ القرآن، وخرج لتنفيذ العملية".
من المواقف، التي أثلجت صدر والده أثناء حديثه مع "قدس"، أنَّ مسنًا كبيرًا كان يأتي لصلاة الجمعة حينما يكون أحمد في دوامه بقلقيلية، وكان ينتظر المسن ويقوم بعقد رباط حذائه أثناء خروجه من المسجد، مبديًا فخره بابنه: "هذا شيء يرفع الرأس، حتى أن شابًا من قلقيلية أرسل لي مقطع فيديو عن ذلك".
حملت دفعة أحمد العسكرية اسم "حراس القدس" ولم يكن ما فعله بعيدًا عن هذا الاسم الذي جعله واقعًا في حياته، وفي يوم استشهاده دوّن توقيعه على رفض اتفاق "أوسلو" الذي تزامن مع ذكرى التوقيع، لحظة قبول ابنه بجامعة الاستقلال قبل خمس سنوات تطل على والده: "كان سعيدًا جدًا، لكن آخر أربعة أشهر تغير، وكان يعاقب كثيرًا من جهازه ولم يكن ملتزمًا بالدوام، لم يفصح لي عن السبب، لكن ابن عمه أخبرني أنه يريد ترك العمل بالأجهزة الأمنية، فجلست معه، لكنه أخبرني أنه سيستمر في العمل، ولاحقًا عرفت أنه لم يرد مضايقتي لأجل ذلك استمر في عمله".
أحمد لاعب كرة القدم
خلف شخصية أحمد العسكرية هناك شخصية رياضية، كان والده الذي يمارس كرة القدم أيضًا قريبًا من نجله في تفاصيلها: "كان أحمد موهوبًا في كرة القدم، ويلعب بفريق كفردان وكان في مركز لاعب وسط، بينما كان يلعب عبد الرحمن حارس مرمى، أحيانًا يقطعون مسافات طويلة للتدريب أو للعب مباراة، أو يستأجرون ملعبًا خماسيًا على نفقتهم، وعندما كان لدي باص كنت أوصلهم بسبب غياب الدعم والملاعب عن منطقتنا".
أكثر من 12 ميدالية من البطولات الرياضية بقيت تزين خزانة أحمد، لكنها تناثرت عندما عاث جنود الاحتلال خرابا في غرفته أثناء اقتحام منزله بعد استشهاده، ذاكرة والده لا تستحضر سوى هذه المباراة: "يوم أن لعب فريق كفردان، ضد بلدة قباطية، وفاز فريق ابني بنتيجة ستة أهداف مقابل هدفٍ وحيد للخصم، صنع ابني أهدافًا وكنت سعيدًا به (..) أيضًا هو يلعب الشطرنج ودائمًا يحصل على مراكز متقدمة فيها على مستوى المحافظة".
لم يكن أيمن عابد يعلم أن نجله يقاوم الاحتلال، إلا عندما أصيب أحمد خلال تصديه لاقتحام جنود جيش الاحتلال لمدينة جنين قبل أربعة اشهرٍ، لحظة محاصرة منزل الشاب محمود الدبعي، " اتصلوا علي من المشفى وأخبروني أنه أصيب بذراعه الأيمن، تفاجأت، لكني عرفت أنه مقاومٌ، حينها أجرى عملية جراحية، وظلَّ يعاني من تأثيرها حتى استشهاده رغم أنها كانت إصابة طفيفة".
يرتدي صوت والده ثوب الفخر بنجله أيضًا "صحيح أنه نجلي الذكر الوحيد، لكنني إنسان مؤمن، راض بقضاء الله، وما فعله فخر لنا وللشعب الفلسطيني، فما فعله خالص لوجه الله وليس لأجل أي تنظيم".
لم يملك أحمد سلاحًا، ولم يمهد الطريق لما يخطط حتى لأقرب المقربين إليه بينهم والده الذي يقر أن ذلك سر نجاح العملية "أمضى يومه الأخير بشكل طبيعي، وهذا سبب نجاحه، وبقيت هذه العملية سر بينه وبين عبد الرحمن، لم يشعرونا بأي شيء، كيف خططا، ونفذا وجلبا الأسلحة".
عبد الرحمن ..المزارع!
عقدت الروابط العائلية صداقة عبد الرحمن وأحمد بحبال وثيقةٍ حتى مات سرهما معها، وقفت مخابرات الاحتلال عاجزة أمام فك هذا اللغز، كانا رفيقين وزميلين في لعبة كرة القدم، لكن عندما تعلق الأمر بحب الوطن وفلسطين، تخليا عن كل شيءٍ يحبانه وتعلقا به لأجل فلسطين، وأصبح الرفيقان شهيدين.
عبد الرحمن مزارع فلسطيني، ورث المهنة عن والده وجده، معروف منذ صغره بحبه للأرض، يكاد يكون روتينه اليومي معروفًا، يذهب الساعة السابعة صباحًا لتفقد الأرض وري المزروعات، ثم يعود للبيت الساعة العاشرة، يرتاح ويغفو قليلاً، ثم يعود للأرض عصرًا لري المزروعات، وهكذا استمرت حياته.
في يومه الأخير رافق عبد الرحمن والده لحضور حفل زفافٍ، ولم يكن والده يعلم أنه سيحضر زفاف نجله في اليوم التالي، رائحة الحزن تفوح من كلام والدته لشبكة "قدس الإخبارية": "كان يومه كأي يوم، لم يظهر شيئًا غريبًا أو جديدًا، لم أتوقع أن ينفذ عملاً مقاومًا، لكن كان هناك كلمات قالها قبل استشهاده مهد من خلال الطريق لنا، فطلب من عمته أن تأجل سفرها للأردن، لأنه "سيتزوج" كما أخبرها، وعندما سألتني، نفيتُ الأمر، وأنه مجرد مزاح، فقال لها: "أنتِ حرة، لأنني أريد عرسًا كبيرًا".
كان هناك إشارة ثانية لم يفهما أحد، لكن أودعها عبد الرحمن لدى جدته المسنة، تروي أمه "كان عندما يعود من الأرض التي يقضي معظم وقته فيها، يذهب لبيت جدته ويضع يدها على رأسه، لكن في اليوم الأخير قال لها: "اليوم يوم استشهادي" لكن لم تتوقع بأنه ينوي بالفعل الاستشهاد".
ترعرع عبد الرحمن بين الحقول الزراعية، تحت أشعة الشمس، كان يجلس على ركبتيه لساعاتٍ طويلة يقصُ أشتال "الملوخية" والخضراوات ويحرث ويزرع لم يتركَ هذه المهنة كما يفعل الكثير من الشباب ومن هنا زاد تشبثه بحب الأرض وفلسطين التي رواها بدمائه في حصاده الأخير لكن خارج الحقول الزراعية، أثناء معركته واشتباكه المسلح والأخير مع جنود الاحتلال.