شبكة قدس الإخبارية

ما هو أبعد من القلق الشخصي… سر وراء بكاء جنود جيش الاحتلال في عملية الأغوار

3_1405962470_326

مقاطع الفيديو التي انتشرت بعد عملية الأغوار، للجنود الذين جرى استهدافهم بالرصاص داخل حافلتهم، والتي تضمنت بكاء وصراخا وارتباكا، كلها مظاهر أزمة داخل جيش الاحتلال الإسرائيلي، مرتبطة أساسا بالتحولات التي طرأت على خصائص جموع المستوطنين في فلسطين المحتلة، الذين كانوا يرون بأنفسهم مجموع تحت التهديد الوجودي في بدايات الاحتلال، قبل أن تسيطر عليهم القيم النيوليبرالية والفردية.

لقد اتخذ الالتحاق بجيش الاحتلال لدى المستوطنين شكلاً ومعنى مختلفين في العقود الأخيرة، فإذا كان الهدف في الماضي هو الالتزام بالمساهمة في أمن جموع المستوطنين، فإن هذا التزام اليوم ينحصر ويتضاءل إلى درجة أن المستوطنين أصبحوا يتعاملون مع التحاقهم في الجيش كقاعدة انطلاق مرحلية بهدف جمع الأموال للتفرغ لمشاريع شخصية بعد الخروج منه، كما تشير دراسة اطلع عليها الحارس بعنوان "جيش آخر لإسرائيل: العسكرة المادية كمثال".

لم يكن الجيش بالنسبة للاحتلال مجرد مؤسسة تقود العدوان والحروب ضد الفلسطينيين والعرب، بل في السياق الاجتماعي كان بمثابة حيز يحاول الاحتلال أن يشكل من خلاله هوية "وطنية" في ظل عدم وجود هوية مشتركة لجموع المستوطنين، وعلى المستوى الشخصي كان الجيش فرصة بالنسبة لنخب الاحتلال لإعادة إنتاج قيم "الشجاعة" و"الانتماء المجتمعي"، وبالتالي فإن الخلل في مخرجات الإنتاج اليوم يؤثر بشكل كبير على شعور المستوطنين بالأمن وعلى ثقتهم بالجيش وثقة الجندي بدوره وبالزمن العسكري المباشر.

يرجع الخبراء العسكريون الإسرائيليون التصدعات والأزمة في النظرة لجيش الاحتلال لدى جموع المستوطنين، إلى حرب أكتوبر 1973 ومن ثم العدوان على لبنان 1982 وعدوان 2006 على لبنان وأخيرا جولات العدوان المتكررة على قطاع غزة. بدأ المستوطنون ينفضون من حول شعار أن الأمن يحتاج للثمن، والسبب نمو طبقة من الرأسماليين الذين أصبحوا يمتلكون رأس مال مكنهم من ممارسة الهيمنة الاجتماعية، وتحول جموع المستوطنين إلى "مجتمع سوق"، وعزف المستوطنون الشباب عن الالتحاق بالجيش من منطلق تأمين حياتهم الشخصية في بعدها الاقتصادي.

وبحسب دراسات اطلع عليها الحارس، فإن سببا مركزيا آخر في سياق هذه التحولات هو إتاحة مساحة واسعة نسبيا مقارنة بالماضي، لعوائل الجنود القتلى للتعبير عن مشاعرهم، وهو ما جعل المشاعر معطى مركزيا في النقاش حول الالتحاق بالجيش، وتشكلت حملات رأي عام وضغوط عليه، ولم يقتصر الأمر على قتلى المعارك، بل أيضا التدريبات، ومع تكرار هذه الأحداث أصبح هناك شك في قدرة الجيش على معالجة أخطائه، وهذا خلق شعورا بأن حياة الجندي ليست مهمة بالقدر الكافي الذي يستدعي تحصينها من خلال المراجعات واستخلاص العبر.

وساهمت تغطية الإعلام الإسرائيلي لجنازات الجنود وبكاء الجنود في المعارك والجنازات، وكذلك تصوير الجنود المصابين في المستشفيات، وإجراء المقابلات الصحفية مع أهاليهم في لحظات حساسة، إلى منح المشاعر بعدا مهما في الالتحاق بالجيش، إلى الحد الذي رأى فيه مختصون بالشؤون العسكرية لدى الاحتلال أن الألم الذي توثقه الكاميرا هو تعبير عن قيم الفردية وليس تعبيرا عن التضامن الاجتماعي. لكن الأخطر بالنسبة لهؤلاء هو ما يتجاوز توثيق الدموع، إلى توثيق المخاوف لدى الجنود وحتى المستوطنين، وهو ما ساهم في كسر هيبة الجيش.

أسباب أخرى جعلت الجندي في جيش الاحتلال مهزوما من الداخل، سيستعرضها الحارس في مقالات قادمة، لكن ما سبق يكشف بوضوح الدافع وراء بعض السلوكيات الإعلامية لجيش الاحتلال كنوع من استخلاص العبر، نوردها في النقاط التالية:

أولا: رغم أن كل عمليات جيش الاحتلال مصورة، إلا أنه يحجب صور الجنود لحظة الإصابة، وأصوات الألم، وكذلك الخوف، بينما يبث الصور ومقاطع الفيديو التي تحاول أن تكرس صورة نمطية عن "الجندي الشجاع" الذي يدخل للأزقة والأحياء بلا خوف أو تردد، وهذا يتضح من مقاطع الفيديو التي ينشرها وتبثها وسائل الإعلام الإسرائيلية وأحيانا بعض وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية. ولذلك يقترح الحارس عدم تداول مثل هذه المقاطع.

ثانيا: يسعى جيش الاحتلال لتفكيك صورة البطل عندما يتعلق الأمر بالمقاتل الفلسطيني، فمثلا يصور المعتقلين بطريقة توهم المتلقي أنهم في لحظة انكسار، وهذا الأسلوب مرتبط في معالجة شعور المستوطنين الذين يترددون بالالتحاق بالجيش، لإقناعهم بأن العدو جبان ومتردد على طريق إقناعهم بالالتحاق به، بينما يظهر جنوده على النقيض من ذلك، وللأسف أحيانا تتناقل وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية هذه الصور.

ثالثا: إن مشاعر أهل القتيل قد تتحول إلى الزاوية المركزية الأهم في السياق الكلي للحدث، وقد تطغى على كل المعاني الأخرى المرتبطة بالحدث، لذلك يحاول جيش الاحتلال قدر الإمكان حجب هذه الصور عن جمهوره، ولذلك نادرا ما نرى المستوطنين وهم يتألمون لقتلاهم من الجنود، بينما تتكثف هذه الصور عندما يرتبط الأمر بقتلى من المستوطنين غير الملتحقين في جيش الاحتلال. هذه النقطة مهمة أيضا في السياق الفلسطيني، فمن المهم التأكيد على شجاعة المقاتل الذي ارتقى بقدر ما يتم التركيز على مشاعر أمه وأهله وما يتعلق بالبعد الشخصي المجرد.

رابعا: إن مقطع الفيديو الذي أظهر الجنود وهم يبكون داخل الحافلة، ومن قبلها عدة توثيقات، كما في اشتباك خانيونس عام 2018، وعملية زيكيم عام 2014، وغيرها من العمليات، هو تعبير عن أزمة في التكوين الاجتماعي والنفسي للجندي في جيش الاحتلال، وخلل يتجاوز حدود الخوف من الموت والمواجهة، لأن المفهومين السابقين لهما معان مختلفة تنتجها السياقات المختلفة، فمن قرر أن يقتحم المعسكر ويواجه كل المخاوف والعقبات المترتبة على ذلك، بالنسبة له الموت والمواجهة معنيان للشجاعة المرتبطة بالحق، بينما الجندي في جيش الاحتلال ونتيجة لعوامل كثيرة أصبحت المواجهة بالنسبة له خطرا يهدد فرصه الاقتصادية والاجتماعية.

المصدر: مركز الحارس للبحوث والدراسات

#جيش - الاحتلال #عملية - الأغوار #النيوليبرالية #حرب - 1973 #حرب - 1982 #عدوان - 2006