أجبرت نتائج حرب لبنان الثانية المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية على ضرورة إجراء مراجعات شاملة لمدى جاهزية الجيش الإسرائيلي، في ضوء مواجهة تحديات حزب الله بأسلوبه القتالي، الذي يدمج بين حرب العصابات والقدرات العسكرية النظامية، وبخاصة القدرات الصاروخية، ما تطلب من "إسرائيل"، التحرّك على جميع الصعد، لإعادة الهيبة إلى جيشها أو ما سمي "تعزيز الردع" بعد الإخفاق في المواجهة العسكرية.
بدأ غابي أشكنازي منذ تسلّمه قيادة هيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي عام 2008 تنفيذ رؤيته للإصلاحات والتغييرات في الجيش الإسرائيلي، في ضوء توصيات لجان التحقيق العسكرية في ثغَرِ حرب لبنان الثانية، فدشن خطة "تيفين" لتطوير الجيش الإسرائيلي بين عامي 2008-2012، التي كان عنوانها إعادة الاعتبار إلى القوات البرية الإسرائيلية، وقدرتها على القيام بالمناورة البرية، مع التنسيق التام مع سلاح الجو، من خلال القدرة على إدارة معركة، تعتمد على المناورة (برية) والنار (جوية)، ما يتطلب بناء قوة الجيش الإسرائيلي، ومفهومه للعمليات من جديد، إلى جانب تحسين التدريبات الأساسية للجيش، وبخاصة القوات البرية فيه، إضافةً إلى تجديد عمل نظام الاحتياط، والتعامل مع مخازن الطوارئ.
بالتأكيد، خطة "تيفين" لم تُتم جاهزية الجيش الإسرائيلي، ولكنها وضعت الأساسات، لعملية تطوير مستمرة للوصول إلى الجاهزية، لذلك عيّن بني غانتس نائب أشكنازي قائداً لأركان الجيش الإسرائيلي لكونه مطلعاً على تفاصيل خطة "تيفين" متعدّدة السنوات، من أجل العمل لاستكمالها.
أدى اندلاع الأزمة السورية وانهماك حزب الله فيها بقوة إلى منح "إسرائيل" فترة هدوء على الجبهة الشمالية، وهو ما استثمره الجيش الإسرائيلي في استكمال مسار إتمام الجاهزية ورفع كفايته حيث جرى التركيز على نحو كبير في إطار العمليات الهادفة إلى الحسم الفعال، وإلى العمل في العمق المؤثر للعدو، بناءً على ذلك أنشأ بني غانتس قيادة العمق في مطلع عام 2012.
إن ما آلت إليه الأزمة السورية، والتطورات الناتجة عنها، وضعت حزب الله في موقع استراتيجي أكثر خطراً مما كان عليه سابقاً، بالنسبة إلى الأمن القومي الإسرائيلي، أضف إلى ذلك العقبات الأساسية التي تواجه عملية الجاهزية العسكرية الإسرائيلية، أهمها تأثير المشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي في عملية الجاهزية، إضافة إلى المعضلة البنيوية في العلاقة، بين المستوى السياسي والعسكري في "إسرائيل"، ما جعل الأمر بحاجة إلى معالجات جذرية، لإنجاح عملية الجاهزية العسكرية، لذا قام الجيش الإسرائيلي ما بين عامي 2015-2021 بتنفيذ خطتين متعدّدة السنوات من أجل إتمام عملية الجاهزية، وتطوير قدرات الجيش الإسرائيلي، لمواجهة المتغيرات العسكرية والأمنية على الجبهة الشمالية، وهي على النحو التالي:
أولاً، خطة "جدعون" متعددة السنوات ما بين 2015-2019، التي قام بها رئيس الأركان آنذاك غادي أيزنكوت القادم من سلاح المدرعات، وصاحب عقيدة الضاحية، وسعت خطة جدعون لتعزيز فعالية المناورة الأرضية وتحسينها، وتنويع القدرات العملياتية في استراتيجية "المعركة بين الحربين"، مع تعزيز البعد السيبراني الهجومي والدفاعي، إضافةً إلى التحقق من الحفاظ على التفوق الاستخباري، والجوي والبحري لدى الجيش الإسرائيلي"، والتركيز على تهديدات "الدائرة الأولى" حزب الله والمقاومة الفلسطينية، والتركيز على سيناريو الحرب داخل الدائرة الأولى.
ثانياً، خطة الزخم "تنوفا"، التي قام بها أفيف كوخافي منذ توليه منصب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي خلفاً لأيزنكوت، فشرع كوخافي رأساً في عقد العشرات من ورشات العمل داخل الجيش، باشتراك مجموعة كبيرة من ضباط الاحتياط، في سبيل وضع خطة متعددة السنوات سماها خطة "تنوفا" ما بين 2020-2024، واستمرت في التركيز على نحو أساس على دوائر التهديد الأولى، لكن من خلال ما يمكن تسميته وضع الخطة التفصيلية لكيفية تحقيق انتصار الجيش الإسرائيلي على المستوى الاستراتيجي العملياتي، إذ اعتمدت خطة "تنوفا" على تطوير وحدات نخبوية خاصة في سلاح المشاة، على مستوى سلاح البر، ومع ذلك، لم تشمل ثمار خطة "تنوفا" جميع سلاح البر الإسرائيلي، ولم تنتشر لتشمل جميع وحدات المشاة النظامية والاحتياطية فيه، يُذكر أن معركة سيف القدس عام 2021 أظهرت نقطة ضعف خطة "تنوفا" الأساسية، وهي أنها مبنية على أخذ زمام المبادرة في الهجوم والاحتفاظ بالضربة الأولى، ففي حال فقد الجيش الإسرائيلي زمام المباغتة الهجومي، كما حدث في معركة سيف القدس، تٌحبط فلسفة خطة "تنوفا" كلياً، لذا سعى أفيف كوخافي بكل إمكاناته لأن تكون للجيش الإسرائيلي أفضلية الضربة الأولى في معركة وحدة الساحات الأخيرة، ولكن كما كتب المراسل العسكري لموقع "واللا" الإسرائيلي أمير بوخبوط "بعد مرور شهر على معركة بزوغ الفجر (وحدة الساحات)، وعلى خلفية رياح الحرب مع حزب الله في لبنان، التقديرات تؤكد أن ما جرى تنفيذه في هذه المعركة من إدارة بنك الأهداف وغرف عمليات النار، وطائرات من دون طيار تملأ الأجواء، لا يكفي لوقف إطلاق آلاف صواريخ حزب الله على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، ما يحتاج إلى دخول القوات البرية الإسرائيلية العمق اللبناني لتدمير منصات صواريخ حزب الله منصةً تلو أخرى"، وهنا يجدر الإشارة إلى أن مسار رفع الجاهزية الإسرائيلية منذ عام 2006 حتى الآن، انصب على نحو رئيس على رفع كفاية سلاح البر الإسرائيلي وقدرته على تنفيذ المناورة البرية في عمق العدو، ولكن كما كتب الباحث في معهد "بيغن للأبحاث الاستراتيجية" غرشون كوهين أن "الاختبار الرئيس لبناء جاهزية القوة العسكرية للحرب، لا يتحقّق إلا في اختبار الحرب نفسها، وما دامت الحرب لم تندلع بعد تبقى جاهزية القوة العسكرية غير موجودة بكل معانيها".