نشر الناطق باسم وزارة المعارف الصهيونية مساء يوم الخميس 28-7-2022 بيانًا قال فيه إن وزيرة المعارف الصهيونية شاشا بيتون قد استدعت مدراء مدارس الإيمان الخمس والمدرسة الإبراهيمية في القدس، وأبلغتهم أنها ستسحب منهم رخصة العمل الدائمة وتستبدل مكانها رخصة مؤقتة لعام واحد، تجديدها مشروط بتصويب ما أسمته "المحتوى التحريضي ضد الحكومة الإسرائيلية وجنود الجيش الإسرائيلي" الذي تحتويه المناهج المعتمدة في هذه المدارس، وهي تدرس المنهاج الفلسطيني شأنها في ذلك شأن ما كانت عليه مدارس القدس منذ عدة سنوات، ما يضع إدارات تلك المدارس أمام مأزق الاستجابة لإملاءات الاحتلال المتتالية لطمس هوية أجيال القدس الصاعدة.
لقد جاء هذا التطور نتيجة لمسار طويل كان يمهد له، إذ كانت المدارس الأهلية في القدس تتمتع باستقلالية عالية قبل عام 2000 وكذلك كانت مدارس الأوقاف والأونروا؛ وكان أكثر من نصف طلاب القدس يتلقون تعليمهم في مدارس خارج نطاق الإملاء الصهيوني وهو ما كان له أبعد الأثر في صمود المدينة واحتفاظها بهويتها.
بحلول عام 2000 بدأ الاحتلال الصهيوني يتبنى سياسة جديدة تجاه التعليم في القدس، فأخذ يبني مدارس ضخمة تابعة له تدرّس نسخة ممسوخة من المنهاج الفلسطيني، وأخذ بيد أخرى يعرض على المدارس الأهلية "دعمًا" باعتبارها تقوم بمهمة "يفترض على حكومة الاحتلال أن تتولاها" وباعتبار ذلك "الدعم" "حصة" المقدسيين من الضرائب التي يدفعونها.
ظلت المدارس الأهلية في القدس مترددة أمام عرض الاحتلال حتى صدرت الاستراتيجية القطاعية للقدس في 2004 عن جمعية الدراسات العربية (بيت الشرق) بتمويل من الاتحاد الأوروبي، لتشجع في الصفحة الثامنة والتسعين منها على "تلقي هذا الدعم" باعتباره حقًا للمقدسيين "يكفله القانون الدولي مقابل ما يدفعونه من ضرائب"؛ معقبة باقتراح أن يتم ذلك "بعمل جماعي منسق بين المدارس"، ولتعيد بذلك ضمنياً تعريف العلاقة مع سلطة الاحتلال في القدس من كونها سلطة احتلال تنبغي القطيعة معها ومواجهتها بالحفاظ على أكبر قدر ممكن من استقلال المجتمع وعصاميته، إلى كونها سلطة احتلال ينبغي الاعتماد عليها باسم "تحميلها مسؤولياتها" وفق القانون الدولي.
بدأت المدارس تسقط في أحضان دعم بلدية الاحتلال فرادى حتى كانت جميعًا باستثناء أربع مدارس منها قد وقعت في براثنه بحلول عام 2012، بالمقابل حافظت سلطة الاحتلال على هذا الدعم دون شروط طوال ثماني سنوات كاملة حتى نهاية العام الدراسي 2011-2012، وحينما اطمأنت إلى أن معظم المدارس الأهلية في القدس باتت تتلقاه وتعتمد عليه -حتى بات يشكل 30% من ميزانية بعض المدارس الكبرى- بدأت تضع الشروط بضرورة تدريس النسخة الممسوخة من المنهاج الفلسطيني والتي تشرف على تبييضها وطباعتها وزارة المعارف الإسرائيلية، وما لبثت الشروط أن بدأت تتكاثر كتعليم كتاب "التربية المدنية" الإسرائيلي وإجبار المعلمين على أن تكون شهاداتهم من مؤسسات تعليم عالٍ إسرائيلية.
في مواجهة ذلك كان هناك تيار محدود من المعلمين وقادة العملية التعليمية في القدس، ومن المؤسسات المقدسية في القدس وخارجها، ترفض تلقي هذا الدعم وتدعو إلى مقاطعته، وإلى الحفاظ على استقلالية قطاع التعليم باعتباره أولوية مقدَّمةً على تنميته مهما كانت تلك التنمية ملحَّة.
وفي مؤتمر عقد في إسطنبول صيف عام 2012 لمناقشة قطاع التعليم حضرته إدارات تلك المدارس؛ طُرح عليها مباشرة سؤال المآلات وإمكانية أن تستخدم سلطات الاحتلال هذه الأفضلية المالية التي مُنحت لها لتفرض على تلك المدارس أن تغير مناهجها وسياستها، وبكل أسف كان رد تلك الإدارات متشنجًا وغاضبًا يرفض مناقشة مثل هذه الأسئلة من الأساس؛ ويصر على أن هذا "الدعم" هو حق للمقدسيين لا بد من "الدعوة إليه عوضًا عن مقاطعته".
ليس هناك من شك في الإرث التربوي لتلك الإدارات وفي حرصها على طلابها وعلى طلاب القدس عمومًا؛ لكن النقاش هنا ينصب حول خيارات بائسة انزلقت إليها أمام إغراءات الدعم وتحسين نوعية التعليم، وأمام القلق من أفق استمرار الدعم العربي والإسلامي القادم من الخارج، فاستسهلت الركون إلى تلك الدعوة لتلقي ذلك "الدعم"، وتعمدت للأسف إغفال النقاش عن مآلات هذا المسار بل وإسكاته حين كان يطرح عليها، وتساوقت معها في ذلك الأوساط الداعمة لها من الخارج، والتي خانتها الحكمة فتحولت إلى منطق سقيم يقول أن دور الداعمين في الخارج أن يدفعوا فقط، ودور العاملين في الداخل أن يحددوا الاستراتيجيات والسياسات.
ما جرى إغفاله في هذه النقاشات هو الجوهر الأساس: ما هي طبيعة علاقتنا مع الاحتلال؟ هل نتطلع لإزالته والتحرر منه؟ أم نبحث عن الحصول على حقوقنا المسلوبة فقط بما يستبطن حينها أنه سيصبح سلطة شرعية لها حق القرار؟ وهذا نقاش يتكرر اليوم على مستوى أكبر في الدعوة إلى حل الدولة الواحدة بعد أن فشل حل الدولتين.
إن المهمة التي يتولاها قطاع التعليم إلى جانب مؤسسات الأخرى هي نقل ثقافة هذا المجتمع المتطلع إلى التحرر من جيل إلى جيل، ومع استمرار تعريض هذا القطاع للخسارات والانتكاسات المتتالية فإننا نقامر بالمستقبل لأجل حصتنا من الضريبة.
أما وقد حصل ما حصل فلا بد أولاً من تثبيت بؤس ذلك المسار وصوابية معارضته، ولا بد من الوقوف الصادق والمسؤول مع الذات لإدارات تلك المدارس ولكل المسؤولين عن التعليم وعن القدس أمام ما وصلنا إليه من مآلات منظورة سبق توضيحها والتنبيه منها قبل أكثر من عقد من الزمن؛ ولا بد بناء على ذلك من وقف التدهور لأن الواقع الحالي قد يدفع إدارات تلك المدارس إلى التحول من كونها بين الأكثر حرصًا على القيَم وعلى الهوية، إلى كونها الأكثر خوفًا ورقابة للذات واستجابة للإملاءات أملًا في الحفاظ على استمرار عملها بأي ثمن.
أخيرًا؛ فإن المخرج موجود لكنه يتطلب الإرادة، فلا بد أولاً من استعادة وحدة قطاع التعليم بأذرعه الثلاثة: الأوقاف والأهلية والأونروا، واستعادة الموقف الموحد للحفاظ على المناهج، ولا بد ثانيًا من التقشف وتقليل النفقات؛ فاستقلال التعليم أهم بكثير من المؤشرات الترَفية لجودته، ولا بد ثالثًا من استعادة التواصل مع العمق الشعبي العربي والإسلامي ليستأنف الدعم ضمن شروط الكفاية ودون تعجيزه بالترف والكماليات، وإذا كانت العودة إلى هذا المسار مكلفة فإنها يمكن أن تكون تدريجية وبتعاون مختلف الأطراف لتقليل الثمن المترتب عليها، وبخلاف ذلك فسينتهي لبّ العملية التعليمية وتبقى المدارس كبيرة وفارهة؛ وما نفعها عندئذ؟!