فلسطين المحتلة - خاص شبكة قُدس: ترسمُ دموعها خطًا ممتدًا يسيل بهدوء على خدها، تتأمل قبري ابنيها الشهيدين اللذين يتشاركان بالاسم ذاته "كامل" علاونة الأول والثاني من بلدة "جبع" قضاء جنين، احتارت على أي القبرين تقرأ فاتحة القرآن أولاً!، وعلى أي قبرٍ تفتحُ جرح قلبها، فجرحها الأول لم يندمل بعد حتى تعيش جرحًا جديدًا هي لا تقوى على تحمله، لكنها وجدت نفسها تضع كفيها على القبرين، وتحركت شفتاها تتلو آيات فاتحة الكتاب، تحدث روحيهما، وتتضرع للسماء أن يكونا في "واسع رحمات المولى عز وجل".
تقف أمام زمانين متشابهين وإن باعدت بينهما أعوامٌ طويلة، فكامل الأول استشهد بعمر (18 عامًا) عام 2003 عندما انتهى من تقديم امتحانات الثانوية العامة في "مهمة جهادية"، وشقيقه الثاني الذي حمل اسمه استشهد بنفس العمر وهو على أبواب تقديم امتحان "التوجيهي" الأخير، لم تعش فرحتها الأولى وحرمت من الثانية، لتعيش مراسم استقبال التوجيهي بشكلٍ مختلف عن الأمهات فالشهادة سبقت الجميع بالوصول إليها جاءت نتيجتها من السماء، وقد حصلا على أعلى الدرجات.
انتهت الزيارة السابعة على التوالي للمقبرة، مسحت دموعها، وغادرت المقبرة.
نعت شهيدها الثاني
يحرك آخر مشهد في حياة الكامل الثاني أمه "أم معتز 55 عامًا"، في مستهل حديثها مع "شبكة قدس" بعد أن ألقت على روحهما السلام: "كان قد تبقى أمامه امتحان التوجيهي الأخير، تناول يومها طعام الغداء عصرًا يوم الثاني من يوليو/ تموز 2022، ثم جاء وطلب أن أقبّله، ففعلت، وقبّل يدي وقدمي، ودخل على غرفته، استغربت مما فعل، مرت ساعة تواردت الأنباء عن مواجهات في جنين، خرج وترك المروحة في وضع تشغيل، لم يمض وقت طويل حتى جاءني خبر إصابته بيده مع بداية العشر الأوائل من ذي الحجة وكنا صائمين".
الساعة الثالثة فجرًا، خار صبرها وانهار تمامًا أمام ضربات قلق فتّتت تماسكها، أدركت أن الإصابة ليست بسيطة كما أخبرت وأن شيئًا ما أخفي عنها، فذهبت للمستشفى، لحظة وصولها قال الأطباء: "أدخلوا والدة الشهيدة لغرفة العناية كي تراه"، كان ابنها متعبًا جدًا نظرتْ إلى وجهه الساكن، وجسده الممد بلا حركة سوى من إشارات تخطيط للقلب مضطربة على أجهزة العناية فبادرت هي بنعي ابنها: "ابني مستشهد"، قاطعها أحدهم يسأل باندهاش تعجب: "مستشهد!؟".
نظرت إلى وجهه وأجابته تطلب أن يستحضر نظراته أيضًا: "اطلع على وجهه، الضو بطلع منه، زي القمر"، غادرت المستشفى وهي عائدة بالسيارة للمنزل، وردهم اتصالٌ من المستشفى يزف كامل شهيدًا، صوت المتصل وصل لأذني والدة الشهيد.
يصلك صوتها المقهور عبر الهاتف تنقل عن شهود عيان لحظة إعدامه "كان يمسكُ حجرًا، يقترب من الجيش من الخلف كان ينادي عليه الشباب بالرجوع لوجود قناص، في هذه اللحظة أطلق القناصة رصاصة على يده وفتت منطقة الكوع، ورصاصة ثانية متفجرة في بطنه، وتركوه ينزف، كانوا يستطيعون السيطرة عليه، فماذا فعل بهم!؟ وأي خطرٍ شكله عليهم، لكنه اعتادوا على القتل والإجرام".
كان طموحه أن يدخل الفرحة على قلب أمه بالنجاح في التوجيهي، لا تنسى كلماته لها: "مشانك بدي أدرس"، ورغم ذلك وخلال الامتحانات، كان لا يتوانى عن النزول ورجم قوات الاحتلال المقتحمة، وبعد انتهاء المواجهات يعود لمكتبه ويفتح كتبه، دائمًا ما يفتح صورة شقيقه الشهيد كامل، يشعر بثقل الاسم عليه، وتشتعل نيران الثأر بداخله.
الامتحان الأخير
رتب كامل لرحلة أصدقاء في نهاية الامتحان الأخير للتوجيهي لمدينة أريحا وقد ادخرت له والدته مبلغًا ماليًا للرحلة ليأخذ "يوما من النقاهة" هناك بعد سنة دراسية مجهدة، قامت بتوزيع المبلغ عن روحه مع أول أيام العيد، تنهيدة نفضت بها أحزانًا متيبسة على قلبها تحرك معها صوتها: "جاء العيد بنفس الزمان والمكان، أعادتني الذكريات لحياة ابني الشهيد كامل الأول قبل 18 عامًا، ويأتي العيد برائحة الفقد الثاني، هذا حكم الله يجب علينا تقبله".
أنياب الحزن لا زالت مغروسة في قلبها على كامل الأول: "26 يونيو/ حزيران 2003، كان قد انهى آخر امتحانات التوجيهي، استيقظ فجرًا، وألحّ على والده بالذهاب للصلاة معه بالمسجد، وارتدى ملابس جديدة، وأخبر والده أنه سينزل إلى جنين لجلب بعض الأغراض للمسجد فكان ملتزمًا، لكنه كان ذاهبا لتنفيذ عملية استشهادية في مطعم بحيفا، وفي الطريق اشتبك ابنها برفقة شهيد آخر بكتائب القسام مع قوة إسرائيلية خاصة كانت تنتظرهم، كان برفقة شهيد آخر ويحملان بندقية وحقيبة بها متفجرات، وظلَّ الاحتلال يحتجز جثمانه أحد عشر عامًا".
في بيان نعي لكتائب القسام على موقعها عن الكامل الأول أشادت بأخلاقه والتزامه وإلحاحه على الشهادة: "إنه كان من المقرر أن تنفذ كتائب القسام وسرايا القدس وكتائب الأقصى عملية مشتركة وبالفعل توجهت المجموعة إلى منطقة باقة الغربية المحاذية لما يسمى الخط الأخضر إلا أن المجموعة اصطدمت بوحدات حرس الحدود الإسرائيلية المنتشرة هناك مما أدى إلى استشهاد كامل علاونة من كتائب القسام وخالد عيسه من سرايا القدس".
ولادة الكامل الثاني
في 27 ديسمبر 2004 ولد كامل الثاني، حتى لا ينقطع ذكر الاسم من البيت، ولم يربط الاسم الشقيقين فقط بل هناك صفات مشتركة تربط الأم بينهما بها: "كانا بنفس الطيبة ونفس المعاملة، الجرأة، رغم تفوق الأول على الثاني بالالتزام بالمسجد، وتجاورا بالقبرين، بالأمس كنت في زيارة لهما، وضعت يداي على القبرين".
بينما كامل الثاني يبحث في خزانة أمه عن ورقة له بين رزمة أوراق تخبئها في ركن بالخزانة، عثر على وصية ورقية تركها كامل الأول، وقعت عيناه على كلمات تركها لأخوته: "كونوا كالورود، ولا تمشوا خلف الشهوات، وامشوا على طريق الجهاد والرسول وسنلتقي في الجنة تحت العرش" ثم جاء يحملها لأمه التي تنهاه عن الخروج لمواجهة قوات الاحتلال، بعدما وجد ما يعزز حجته أمامها: "شايفة شو كاتب أخوي، وبدكيش أطلع لما ييجي الجيش".
تعلق: "دائمًا يذكر شقيقه الشهيد الأول، فمرة سألته: أنت بتعرفش أخوك؛ ليش بتسأل عنه كتير؟ اعتقدت أن الزمن يمحو الأخ من الذاكرة، لكني كنت مخطئة، فقال لي: "حتى لو ما شفته، وعشت معه، بضل أخوي"، كثيرًا كان يسأله عنه، كيف قتل وأين كان سيذهب، كنت أشعر أنه فخور بشقيقه ودائمًا يتوعد جيش الاحتلال: "بفرجيك فيهم"، ومن شدة ما كرر تلك الجملة، سألته "بحجر ماذا ستفعل!؟"، لا أنسى جوابه: "الحجر بهزهم أكثر من أي شيء".
منذ طفولته كان كامل الثاني يرجم جيش الاحتلال بالحجارة، اشتدت مشاركته ومقاومته الشعبية منذ أربع سنوات، كثيرًا حاولت والدته الحديث معه حتى لا تفقده وحتى لا ينقطع الاسم من البيت، فكان رده الدائم: "تحدثوا بأي شيء إلا هذا الأمر"، تعلن رضاها عنه: "كان يطيعني في كل شيء كونه أصغر أبنائي، أفتقد طيبته، كنت بعد كل صلاة فجر أدخل غرفته وأغطيه، أفتقد صوته ففي كل مرة يدخل إلى البيت ينادي من على درجات المدخل يا "يما يما"، صوته كان يملأ البيت، حتى أنني كنت أسأله: ليش بتنادي، فقال لي: "خلص بعرفش أدخل البيت بدون ما أنادي عليك".
حصل، على فرصة عمل بالداخل المحتل، مع بداية السنة الدراسية في الثانوية العام، لا زالت والدته تذكر راتبه الأول والأخير: "جاء براتبه الشهري والبالغ خمسة آلاف شيقل وأعطاه كله لأخوته، لكنه تنازل عن العمل لأجل إكمال دراسته، رغم أن صاحب العمل وهو عربي من مدينة أم الفحم المحتلة ألحّ عليه بالاستمرار بالعمل معه فوعده ابني بالعودة إليه بعد الامتحانات".
كلمات الفخر التي نطقتها تغلب جرح الفقد: "رغم كل شيء لي الفخر أني والدة شهيدين، صحيح أن الفقد حق، وغيبتهم موجعة، لكني مطمئنة عليهم، وأنهم شهداء عند الله، ولن أنسى الكاملين الأول والثاني، فالأول لا زلت أذكر كل شيء في حياته، وكامل الثاني كان أصغر أبنائي وكثيرة هي المواقف معه".
يأخذها الكلام لموقف قريب تستحضره من أدراج الذاكرة "اشترينا بيتا آخر في منطقة هادئة بمنطقة الجبل في جنين، وأمامه حديقة وحوله أشجار، لأننا كبرنا بالسن وأصبحت حياتنا في بيتنا الحالي (على الشارع العام) صعبة، فقلت له: شايف محلا الدار، الشجر، الهواء، الوساع، فأشرت إليه لموضع غرفته، فرفض الخروج من بيته، حتى يكون قريبًا على المواجهات".
أيضًا شقيقه إمام عاش معه آخر اللحظات في نفس البيت، يرويها لـ"شبكة قدس": "كانت لدينا بعض الأعمال، وجاء قبل استشهاده بيوم بعد تقديم الامتحان لمساعدتنا، كان يضحك وسعيدًا، وعند إصابته ذهبت ورأيته تبسم لي قبل دخوله في غيبوبة، ثم استشهد فجر اليوم التالي".
يرثي شقيقه "بلغت من العمر 15 عاما عندما استشهد كامل الأول، وكان ملتزمًا بالصلاة في المسجد ومحبوبا عند الناس، نفتقد الكاملين ليس في العيد فقط، بل في كل لحظة، نفتح ذكرياتهما ونتحدث عنهما، وغيابهما أمر يعز علينا".
أنشودة أهداها إياها أصدقاؤه بكلمات الشاعر "حمزة البرغوثي" تخلد ذكراه: "العين تبكي جراح تصرخ على غيابه، دمه عطر فواح ومبلل ثيابه، ورصاصنا دوَّا ولمع، راحوا الغوالي يا جبع، كامل علاونة اللي طبع، المجد بكتابه".