فلسطين المحتلة - خاص شبكة قُدس: ظل فجر الأربعاء هادئًا، السكون يحيط في كل شيءٍ في مخيم جنين، قبل أن يتلقى محمد مرعي (25 عامًا) اتصالاً من شقيقه الأكبر "تامر" في الثالثة فجر يوم 29 يونيو/ حزيران، يطلب منه النظر من شرفة بيت عائلته تجاه سطح منزله المجاور له، للتأكد من عدم وجود قوات إسرائيلية خاصة بعدما أيقظته أصوات حركة غريبة، فتلك القوات عادة ما تعتلي سطح بيته الواقع على الجبل في نهاية المخيم وكونه يكشف أجزاءً واسعةً منه.
محمد المعروف عنه بقوة قلبه وشجاعته غير العادية، لم يكتف بالنظر، حمل نفسه وذهب لسطح منزل شقيقه الذي شاهده عبر الكاميرات المثبتة على منزله، فاتصل به تجر صوته علامات التعجب خوفًا عليه وعلت نبرته: "أنت مجنون؛ بركن في جيش، كان قتلك!"، بكل برودة أعصاب رد عليه: "إيش يعني، مش خايف منهم".
بعد الحدث وعلى مدار نصف ساعةٍ، ظلت حركة محمد، وهو يتحرك جيئة وعودة بين المنزل والشارع تثير علامات استفهام شقيقه الأكبر الذي لم يجد تفسيرًا لها، علمًا أن محمد من أعضاء وحدات الإرباك الليلي بالمخيم، ومن حراس جنين الليليين بالعادة لا ينامون في الليل وهم يتتبعون حركة قوات الاحتلال.
مغالبًا دموعه وبصوت مختنق، تنصت "شبكة قدس" لبقية التفاصيل من شقيقه تامر: "بعد نصف ساعة اقتحم جيش الاحتلال المخيم، فاتصل أخي على أقاربنا وأصدقائه – كما روى لي أحدهم – وطلب حضورهم العاجل: "يلا يا شباب فاتوا الجيش".
ورغم أنهم في كل مرة يتجمعون ويذهبون معًا، رفض هذه المرة طلبهم بانتظارهم، وقال للراوي: "بديش استنى حدًا، بتلحقوني" وكان في عجلة شديدة، ثم صادف ابن خاله على دراجة نارية، فأوقفه وصعد خلفه وضرب على كتفه وطلب منه التحرك: "بسرعة وصلني عند الجيش".
"الكوع الأسود"!
كان يحمل في يديه "قنبلة محلية" (كوع) صنعه بنفسه وأطلق عليه اسم "الكوع الأسود" وكان يريد استخدامه لأول مرةً، وأخبر أصدقاءه بأنه أدخل عليه تعديلاتٍ بحيث يكون تأثيره وصوته كبيرًا، "ما أن وصلا وبمجرد نزول أخي عن الدراجة، أطلق عليه قناص إسرائيلي رصاصة اخترقت يده وتفجرت في خاصرته ونقل إلى المستشفى".
بعينين امتلأتا بالدموع، وقف تامر يراقب مساعي الأطباء لإسعاف شقيقه في قسم الطوارئ وقبل إدخاله لغرفة العمليات، الدموع ذاتها لا زالت تفلت منه وتجري حزنًا على محمد: "كان يفتح عينيه وينظر للأعلى، كمن يتمعن في شيء لم يرمش لحظة واحدة، رأيت ابتسامة فرح على وجهه، ثم شعرت به عندما نفض قدمه نفضةً قوية، وأغمض عينيه، أيقنت أنه استشهد، لكن الطبيب أوقف حالة العذاب التي أوشكت على الدخول بها، وهو يوجه الأطباء لإدخاله غرف العمليات".
بعد خمس دقائق خرج الطبيب وهو يخلع قفازيه، قرأ تامر الخبر في عينيه، قبل أن يطلب منهم الصبر، طالبًا منهم الدعاء له "بالرحمة والقبول".
على شرفة منزله، ظلت والدته تنتظره بعدما رفضوا وصولها للمستشفى، يجتاحها القلق على مصير نجلها المكنى "أبو علي" تعاتبه: "الله يسامحك، ضليت تفر وتكر عبال ما تصاوبت"، في لحظةٍ أعادت ذاكرتها استرجاع المواقف وترتيب الأحداث.
توقفت عند حوارٍ أخير دار بينها وبين محمد قبل أيام من استشهاده، دخلت على غرفته ووجدته يتأمل في فيديوهات الشهداء، ثم بادر بسؤالها: "يما، إذا استشهدت بتعيطي علي!؟" أخذت الأمر بنوعٍ من عدم الجدية ولكنها أجابته: "ليش بديش أعيط عليك!؟.. ربيتك وتعبت عليك، ما بتهون علي" ثم أشاحت به عنها، وتغيرت ملامحها: "ليش بتحكي هيك" لكن ردت فعلها أضحكته.
تنافس على حجز قبر
إن كنت من قارئي الكتب، فحتمًا لن يخطر ببال كاتب واسع الخيال، أن يؤلف فقرة لمشهد مماثل لما حدث مع محمد قبل يومين من استشهاده، ففي جلسته مع مجموعة من أبناء المخيم، كان الشبان المقاومون يتنافسون على حجز القبر الفارغ المجاور لقبر الشهيد "براء لحلوح" (استشهد في 17 يونيو/ حزيران 2022)، اختصر محمد الطريق أمام المتنافسين وقال بكل ثقةٍ: "صدقوني هذا القبر اللي رايحين تدفنوني فيه"، وعرض عليهم "الكوع الأسود" وطلب منهم انتظار سماع صوته وتأثيره.
نام محمد بجوار براء، ومن حولهم قبور أبطال جنين كأحمد السعدي وعبد الله الحصري وأمجد الفايد، شهداء، مضوا في طريق واحدة، تعرفهم أزقة وشوارع جنين التي أرَّقوا فيها قوات الاحتلال، شهداءٌ كتبوا فصول قصصهم بالدم، لكلٍ واحد منهم بطولة خلدها التاريخ، رفضوا "الذلة والهوان" أعادوا هيبة الاسم إلى مخيم "جنين" فبات مرور مركبات الاحتلال أمرًا صعبًا، أمام ضراوة المقاومة المتصاعدة، التي أوقد هؤلاء الشهداء شعلتها من دمائهم التي لا زالت تنزف.
محمد صاحب وجه مستدير، نظرته حادة تشع من عينيه الثورة، حاجباه يشبهان جناحي صقر ينقض على فريسته في ظل لحظة مواجهة مع الاحتلال، لحيته سوداء كثيفة، عيناه اتسعتا لحب جنين وفلسطين، ولكره الاحتلال، من وجهه يشع نور ساطع يهتدي إليه من ضل طريق الحرية والكرامة، فهذه الملامح لم تطأها عتبة الخوف.
يهب تامر شقيقه الشهيد "فداء للأقصى" ويأمل أن يكون شفيعًا لهم، يقول عنه: "محمد رجل شهم شجاع لا يخاف الموت، لا يحب الخطأ، صادق لدرجة كبيرة لديه حياء كبير، إذا اقتحمت قوات الاحتلال جنين ولم ينل الشهادة كان يحزن كثيرًا، صمم على الشهادة وألح في طلبها بشدة، بنيت له أعمدة وطلبت منه سقفها والزواج، وكذلك أبي وأمي عرضوا عليه الزواج فرفض، وأخبرنا أنا يريد الشهادة".
والدته، التي بدت أكثر تماسكًا من ابنها تامر، تحاول رسم بقية أحداث اليوم الأخير لمحمد لـ "شبكة قدس الإخبارية" تتوقف عند مساء الثلاثاء، لكنها لم تستطع كبح جماح أحزانها أمامنا فتروي بصوتٍ يكسره الفقد: "اتصلوا به أبناء خاله وطلبوا منه الحضور لمساعدتهم في بناء شرفة المنزل، وعاد الساعة العاشرة، طلب مني إعطاءه وثيقته الشخصية (الهوية) فأثار الأمر استغرابي: ايش بدك فيها؟، فأخبرني أن متنزهًا جديدًا افتتح في جنين، ويريد التسجيل لديهم للعمل، ودعوت الله أن يوفقه كونه متعطل عن العمل منذ أربع سنوات، حتى أفقت فجرًا على صوت قرع الباب من أبناء خاله يخبرونا بإصابته".
"يما يا حبيبي بتدب حالك على الموت هيك، بتخافش!؟" كررتها كثيرًا بعد كل شريط حكاية من حكايا الصمود كان يقصها عليها عن المواجهة الليلية في المخيم.
فرح تسأل عن شقيقها!
في البيت، لا زالت شقيقته فرح (12 عامًا) وهي من ذوي الإعاقة "الصم" تدور في أرجاء البيت تبحث عن شقيقها محمد، ورغم أنها شاهدت جثمانه لحظة التشييع ووضعت رأسها على صدره لحظة تشييعه وبكت عليه بشدة، إلا أن النسيان يغلبها أحيانًا، فتعتقد أنه لا زال حيًا، تمسك يد أمها تشير لمكان نومه، تعلق قائلة: "فرح لا زالت مصدومة كحالنا، لأنها كانت متعلقة بشقيقها محمد وكان يحبها ويعطف عليها، لكن لا أعرف وكأنها تنسى أنها استشهد تشير لموضع نومه وأنها كانت تساعده وتعد له الشاي والقهوة وأنه خرج ولم يعد أحيانا تقف على الشرفة وكأنها تنتظر عودته".
ولدت الثورة والشجاعة في قلب محمد عندما كان طفلاً صغيرًا، لم يتجاوز عمره أحد عشر عامًا، تطير ذاكرتها لتلك الأيام تستذكر بطولات طفولته: "عندما كان جيش الاحتلال يقتحم المخيم، كان يهجم عليهم ويستقبلهم بالحجارة، فكنت أغلق الباب وكثيرا ما قفز من فوق باب المنزل وخرج لطردهم، ثم عندما كبر قال لي: "امنعيني عن كل شيء إلا الجيش" عرضت عليه الزواج وبناء شقة فرفضها واختار الشهادة وقال لي: "ما بدي أظلم بنت الناس معي وتترمل بعدي".
وفد من المعزيات قطع حوار الأم مع "شبكة قدس" لكنها تركت كلمات أكدت رضاها عنه وهي تلقي على روحه السلام: "أقدم محمد فداءً للأقصى، فنحن في أرض الرباط ولا يوجد أحد لا يتمنى الشهادة، ونحن محتلون (..) نحن مقهورون على أبنائنا وهم يذهبون منا واحدًا واحدًا، والاحتلال لا يرحم كبيرًا ولا صغيرًا، رحمه الله إن شاء الله يكون مع الرسل والشهداء ويجعل الله قبره روضة من رياض الجنة".
لكن ذاكرة والده ماهر مرعي تحتفظ بذكرياتٍ أخرى عن طفولته، لم تمحها الأيام ومرور السنين، محمد عندما صعد على ظهر أحد الجيبات العسكرية وعلق راية حركة الجهاد الإسلامي في طفولته، ثأرًا لاستشهاد ابن عمه أحمد مهند مرعي (12 عامًا) الذي صعد على ظهر دبابة وتم قنصه وإعدامه خلال اجتياح الاحتلال لجنين عام2002، فكان هذا الإعدام سببًا في ولادة أحد فرسان المخيم "محمد".
يعترف والده لـ"شبكة قدس": "تحدثت وقلت له: بكفي مناضلة، وأخبرته أنني بدأت البناء له، وأنني سأزوجه، فقال لي: ما حد يحكي معي إلا بالشهادة".
لم يكن محمد مطلوبًا على مجهر قوات الاحتلال فقط، فالسلطة لها نصيب من ملاحقته، قبل عامين (يقول والده) اعتقلته الأجهزة الأمنية أثناء عمله في أحد المطاعم للمأكولات الشعبية في جنين: "يومها قدمت تقارير طبية لهم تثبت وجود إعاقة في رقبته رافقته من الولادة فيبقيها مائلة، لكنهم اعتقلوه خمسة وعشرين يومًا في سجن أريحا وأخرجته بكفالة".
هذه الكفالة لم تثنِ محمد عن طريق المقاومة، فلم ترَ عينيه سوى الشهادة، غاب الأب في حزنه وتوارى خلف دموعه، مشهد لم يفلت من أبيات (درويش): "الشهيد يُحَذِّرُني: لا تُصَدِقْ زغاريدهُنَ، وصدق أَبى حين ينظر في صورتي باكيا: كيف بدَلْتَ أدوارنا يا بُنى، وسِرْتَ أَمامي".