انبثقت هبة أيار 2021 في خضم كثافة بالتقاطعات المرتبطة بالرزنامة السياسية والاجتماعية، فقد ولدت الهبة في ظل سلسلة متواصلة من الأيام المفصلية: مسيرة الأعلام وشهر رمضان وموعد المحكمة المرتبط بتهجير حي الشيخ الجراح، ويوم الاستقلال الصهيوني والنكبة وغيرها، وقد كان للهبة وامتدادها على مستوى المجتمع الفلسطيني بجغرافيته المتعددة أثر بالغ الأهمية على وعي العدو، بل يمكن القول إن الهبة ساهمت في عملية بناء مخطط هدف إلى الانقضاض على موسم الانتفاضِ قبل حدوثه، بتعبير آخر، شكلت هبة العام الماضي مادة دراسية هامة عند العدو في محاولةٍ لتفادي إمكانية حدث شبيه في العام الحالي، وفي محاولة العدو توظيف المبادرة في مسار تصحيحي للصورة المهتزة التي ظهرت به أجهزة الدولة الصهيونية - الأمنية والعسكرية والسياسية - العام الماضي.
فقد انكبت أجهزة الدولة الأمنية على تهيئة المجتمع الصهيوني لإمكانية التصعيد- عدة أسابيع قبل شهر رمضان- من خلال الحديث المستمر والمتصاعد عن الحدث الكبير الذي سيأتي، وقد يكون هذا الحديث المتصاعد والموتر حول إمكانية انبثاق هبة أو انتفاضة أو حرب هو ما رسم فضاء الأحداث في هذا العام، فمن جهة وضع هذا الحديث العدو في موقع المبِادر، ومن جهة أخرى ساهم هذا الحديث في بناء شكل وطبيعة الأحداث التي حضرت.
لو تخيلنا اثنين يركبان في المصعد، وإحداهما قلق ومتوتر وتبدو عليه علامات الترقب والخوف، فإن الطرف الآخر حتى لو لم يضمر أي مخطط للمواجهة فهو مضطر إلى تهيئة نفسه لإمكانية تحول هذا القلق إلى عنف ومواجهة، وهذا ما حصل بالفعل، بمعنى أن اتخاذ أجهزة الدولة الصهيونية من رمضان مصدرًا للقلق والارتقاب لعب دورين، الأول ساهم في بناء معركة أعد لها مسبقًا، وبنى إمكانية المعركة نفسها.
ويمكن لنا التماس بعض معالم تكتيكات هذه المعركة المعدة مسبقاً: بناء مستوى تكتيكي من الدروس المتراكمة من المواجهة في القدس، بما فيه التعامل الأمني والشرطي داخل الحرم القدسي الشريف، والذي تُرجم إلى قراءة تفصيلية لحركة الأجساد في المواجهات، وإمكانية تحويل الحرم إلى فضاء اعتقالي جماعي كما حدث ببدايات رمضان من هذا العام، وتضمنت أيضًا قراءة لإمكانية تمرير مسيرة الأعلام في ظل خفوتٍ في المواجهة الشعبية بسبب غياب عنصر الحشد الذي يستحضره رمضان من خلال إعادة ترتيب الوقت.
ولكن، ما يهمنا هنا أن تلك المحاولات كانت تصبو إلى إعادة ضبط صورة النصر، لمجتمع غرق العام الماضي في أحداث استطاعت زعزعة توازنه، وجعلته يبحث عن مسلك يعيد ذلك التوازن، ولكن العام الحالي وفي موسم الانتفاضِ أيضاً حصل ما هو مغاير، فأمام مسيرة الأعلام خرج الفلسطيني في جنازة الشهيدة شيرين أبو عاقلة من باب الخليل ومنه إلى مقبرة صهيون، بل تحول من فضاء يغيب الفلسطيني عنه إلى فضاء يرتفع فيه العلم الفلسطيني، وأمام تخطيط إسرائيلي مضنٍ لما يمكن أن يحدث في القدس واستعداد تكتيكي أمني مكثف، حضرت عمليات في قلب المستعمرة، وفي مناطق بعيدة عن القدس، وانبثق ما لم يكن في الحسبان.
تبقى للصهيوني مسيرة واحدة كادت أن تكون روتينية لولا العام الماضي، مسيرة احتاجت لغطاء الطيران الحربي ولحشود من الشرطة توازي أعداد المستوطنين لتمر، ونعم مرت. ورغم ذلك، لم يكن هذا الموسم مختلفًا جذريًا عن العام السابق. باختصار، حاول الصهيوني، ولكنه تخبط بالمفاجأة الأولى: سلسلة من العمليات بعيدًا عن قلب القدس، وحاول أن يستعيد صورة نصر ما ولكنه وجد علم فلسطين يرفرف في كافة أرجاء القدس، حاول أن يخطط ولكنه وجد منظومة اجتماعية فلسطينية أحيانًا ما تفتقر للتخطيط ولكن قادرة بالحد الأدنى على إعطاب المبادرة، بل إنتاج مبادرتها الذاتية.
بالفعل، لو كنا حكمنا على موسم الانتفاضة هذا كمعركة ملاكمة لكان النصر حليفنا من خلال مجموع النقاط، هذا لا يعني أنه علينا ألا نصحح العديد من الأخطاء بما فيه الإدارة الأفضل للحرب النفسية والإعلامية خاصة بالملفات التي يمكن الاستعداد لها مسبقا، والتعاطي الجاد مع التحولات التكتيكية عند العدو بمقابل إمكانيات بناء استراتيجيات وتكتيكات مواجهة عندنا، ولكن من المهم عدم قراءة أحداث هذا العام من زاوية حدث واحد من أحداثه.
بالنهاية، ساهمت أحداث هذا العام بإعادة تسييس فضاءات احتكاك كثيرة من شمال الضفة إلى جنوبها تتمثل بصراع الأعلام، تحولت مسيرة الأعلام أيضا إلى مسيرة استعادة العلم الفلسطيني ووضعه في مركز الصراع، وساهمت إلى حد بعيد في بناء إرادة دفاعية في المواجهة مع اقتحامات الجيش في جنين ونابلس وحوارة وبيت لحم وغيرها من نقاط الاحتكاك المتزايدة.