اشتباكات يومية وصدامات في حي الشيخ جراح، بيوت مهددة بالمصادرة، مواجهات في باب العامود ومحاولات لفرض الأمر الواقع بالحواجز المعدنية، واقتحامات متواصلة للأقصى حولته قبل ساعات من مسيرة الأعلام إلى ساحة حرب بكل معنى الكلمة، صليات الرصاص المطاطي والحي لا تنقطع، وأمطار من قنابل الصوت والغاز تنهمر على المرابطين في المسجد القبلي والمتحصنين بالأسقف والباحات، ومئات الجرحى، ومآذن تطلب العون والمدد، مشاهد ملحمية، ظن الاحتلال أن نهايتها ستكون مرورًا آمنا لمسيرة أعلام مستوطنيه في البلدة القديمة وباب العامود، حتى دوت صافرات الإنذار من حيث لا يحتسب ولا يدري، وتشتت شمل آلاف المستوطنين هلعًا ورعبا قبيل مغيب شمس يوم الإثنين الموافق 10 مايو 2021.
هكذا كان الطريق لمعركة سيف القدس في العام الماضي، التي كانت نقطة فارقة في تاريخ الصراع، ومحطة جمعت الشتات الفلسطيني الداخلي والخارجي، وأعادت وصل الأرض المحتلة، وتوحيد جغرافيا المعركة في غزة والقدس والداخل والضفة الغربية، كانت هذه المعركة، بما مهّد لها من أحداث على الأرض ، وبما حملته من مفاجئات من ضربتي الكورنيت والقدس الافتتاحيتان، إلى ما شهدته يومياتها، وبما أسفرت عنه من نتائج ووقائع على الأرض لا زالت متواصلة حتى الآن.
ما بعد المعركة المؤجلة
أمام تصاعد هجمة الاحتلال ومستوطنيه على القدس صبيحة يوم 29 مايو 2022، مضت الساعات ثقيلة على الجمهور الفلسطيني وهو يتوقع أمام حجم الاعتداءات وتكثيفها، ردًا فوريًا من فصائل المقاومة قد يكون شرارة معركة سيف القدس 2، ومع انتهاء اليوم الذي شهد مسيرة الأعلام، وصلوات في باحات الأقصى، ومواجهات في البلدة القديمة، اشتعلت السجالات والنقاشات حول رد المقاومة المفقود، وتباينت آراء الجمهور من البحث عن الأسباب والدوافع والتماس الأعذار، إلى التأمل في رد قادم، أو الصمت أمام صدمة أحداث اليوم، وصولًا لآراء تباينت في حدتها نقدًا أو تجريحًا.
وبعيدًا عن نقاش ما جرى في ذلك اليوم، وأسباب وتحليلات عدم تدخل المقاومة ميدانيًا للرد على عدوان الاحتلال، التي أشبعها المحلول نقدا ودراسة وتحليلًا، نجد من الأجدر التركيز على عناوين فرعية وجانبية كانت غائبة إلى حد ما عن حيز النقاش العام وتحليلاته ومنها:
الثمن المؤجل وتكلفة الدم
اتجهت آراء عديد المحللين في محاولة فهم عدم رد المقاومة، إلى مناورات الاحتلال العسكرية المتواصلة منذ أسابيع، واستعداده الميداني للتدخل الفوري في حال انطلاق الرد من غزة، والذي إن تم فقد وقع في خانة المتوقع، وفقد هذه المرة عنصر المفاجئة الذي أربك حسابات الاحتلال العام الماضي، لكن السواد الأعظم أحجم عن دراسة تكلفة الرد وما سيوقعه في القطاع المحاصر، من خسائر بشرية ومادية ونفسية فادحة، بعد قرابة عام على معركة لا زالت أنقاض ما دمرته من أبراج ومنازل سكنية تملأ طرقات غزة وأحيائها، ومسحت خلالها ترسانة الاحتلال عائلات كاملة من السجلات المدنية، ودفنت المئات تحت الأنقاض شهداء وجرحى.
وهنا ننحاز بالرد إلى الملايين المحاصرة في القطاع، والقاعدة الشعبية التي تدفع في كل جولة أثمان انتقام العدو وفشله الميداني على الأرض في وجه المقاومة، وتفقد أبنائها وعائلاتها أو منازلها ومصالحها التجارية، وتواصل دفع الضريبة قبل وأثناء وبعد كل مواجهة.
إن الانحياز لمن يدفعون من لحمهم الحي ضريبة أن تصبح غزة درع القدس وسيفها، ليس خيارًا يجب أن يغيب خجلًا عن النقاش والتحليل، وإن البحث عن أي فرصة أو طاقة فرج تمنح أهل غزة فرصة التقاط الأنفاس وتجنبهم أي عدوان جديد، هي خيار مقدس وأصيل ولا يقل عن واجب وأمانة الدفاع عن أي بقعة في فلسطين.
قد يتسائل هنا أحدهم، لماذا كانت معركة سيف القدس إذا في العام الماضي، ولماذا لم تجنب المقاومة أهل غزة أثمان تلك المعركة، والشواهد هنا والتفاصيل الميدانية أكثر من أن تذكر، لكن تلك المعركة وتبعاتها من مئات الشهداء والجرحى والدمار الواسع في بنية القطاع التحتية، كانت ثمنًا لقرار المقاومة الذي فاجئ الاحتلال وضربه في مقتل توقعاته، ولتغيير المشهد وفتح جبهات ساحات فلسطين التاريخية كاملة من أقصى جنوبها إلى شمالها في وجه العدو، لقد اتصلت غزة في تل المعركة بالقدس واللد و الرملة وبئر السبع ونقاط التماس في الضفة الغربية، وكانت تلك المعركة مؤسسة لكل الأحداث التي تتواصل على الأرض في كل نقاط المواجهة باختلاف أسبابها، كنتيجة مستمرة إلى اليوم، فيما أحدثته بالحالة والمعنويات الفلسطينية، ودافعها للمواجهة.
حرب على كل مسيرة أعلام
لقد حققت معركة سيف القدس أهدافها في العام الماضي، بأن حوّلت مسيرة الأعلام لاستنزاف للعدو، وصداع لكل دوائره الأمنية والاستخباراتية والعسكرية ووقودًا لصراعات أحزابه السياسية، وفتحت أبوابًا للمزايدات وتراشق الاتهامات، وأصبحت "إسرائيل" تحشد جيشها وتعد العدة وتعلن حالة الاستنفار القصوى لتنظيم مسيرة في البقعة التي تزعم أنها عاصمتها ومركز سيادتها، لقد أصبحت المسيرة التي كانت تمر بصمت ودون أن يسمع عنها أحد سوى أهل القدس منذ عام 1968، برميل بارود منذ مايو 2021.
إن هذه النتيجة التي صنعتها معركة سيف القدس، ألقت مسيرة الأعلام إلى يد الجماهير التي حفظت هذا الحدث كمناسبة لتصعيد العمل النضالي ضد الاحتلال، مستذكرة صنيع المقاومة التي خبرت صنيعها سابقًا، وإن كان العام الماضي قد شهد شرارة المعركة، فليس من المنطق ولا المعقول، أن تندلع المواجهة عقب كل مسيرة أعلام تمر في شوارع القدس، وليس من الوارد حاليًا أن تصبح هذه النقطة خطًا أحمر يلتزم به الاحتلال، وهو يرى سراب سيادته على القدس يتلاشى ويتبخر، ويحشد كل قوته للوصول إلى الحد الأدنى من المشاهد التي تمنحه نشوة الانتصار المؤقت لساعات، وهو يحاول أن يخلق مشهد سيادة مزعوم بأي شكل وأي ثمن مهما عظم.
بعد أسابيع على انتهاء سيف القدس، حشد الاحتلال مسيرة الأعلام مجددًا، بمسار محدد وآلاف الجنود للحماية والتأمين، مرت المسيرة في حينه بالحد الأدنى، وكمحاولة للتأكيد على فرض السيادة الإسرائيلية على القدس بأي شكل وبأي مظهر، لكن القطعي والأكيد والثابت الآن، أن زمن مسيرات أعلام ما قبل 2021، قد ولى إلى غير رجعة، سواء قامت لتعطيلها معارك أم لم تقم.
تثبيت اتصال نضال الساحات
كانت معركة سيف القدس، إيذانا بتوسيع رقعة المواجهة، ووصل أطراف فلسطين التي عمد الاحتلال لتقطيعها والتعامل معها كـ "كانتونات معزولة"، حروب في غزة، واقتحامات وإعدامات ميدانية في الضفة، ومشاريع أسرلة وعنف وجريمة في الداخل المحتل، وتهويد متواصل واستيطان يتمدد في القدس المحتلة، فكانت معركة العام الماضي، إيذانا بدخول ثقل غزة العسكري في الدفاع عن القدس والمسجد الأقصى، وتدشينا لزمن اتصال ساحات النضال، في القدس والضفة والداخل المحتل، مستمدين من حضور غزة العسكري، دافعًا لإشغال العدو ومواجهته على الأرض، لا الاكتفاء بمناصرة غزة بالدعاء، والصعود إلى اسطح البيوت وقمم الجبال لمشاهدة نيران صواريخها في سماء قلب الكيان.
إن غزة التي شكلت الرافعة المعنوية والميدانية، لكل ما تشهده ساحات النضال الفلسطيني اليوم، لا زالت حاضرة وموجودة في ساحة الصراع الأبدي مع الاحتلال، لكن الرهان اليوم على تثبيت نقاط النضال والاشتباك مع الاحتلال على امتداد الأرض المحتلة، لتكون حالة استنزاف متواصلة لـ "إسرائيل"، ومعركة مستمرة تكون غزة قادرة على التدخل لإسنادها حال استمرت في انهاك العدو واستزاف قواته لتأمين كل مستوطن ومستوطنة، فأصبحت جنين اليوم عقدة اشتباك لا تهدأ، وتمددت التجربة إلى نابلس، وبعض المخيمات، وفي مناطق كحوارة اندلعت معركة الأعلام، وفي شوارع القدس كانت المعركة المنسية طوال يوم مسيرة الاعلام، بمواجهات عنيفة في الاقصى، وصدامات مع قطعان المستوطنين في البلدة القديمة، والقاء حجارة وزجاجات مشتعلة، وليس انتهاء بتحليق العلم الفلسطيني فوق باب العامود على طيارة مسيرة، في مشهد ملحمي أصبح رمزًا لمعركة التصدي، ولسيف القدس الذي لا زال مشهرًا بكافة أشكال النضال الوطني على مختلف الساحات.