جنين - خاص قُدس الإخبارية: وضع المشيعون جثمانه أمام والدته ومجموعة من النسوة بمنزله بمخيم جنين، تساقطت دموع الأم على وجنتي ابنها، فأفلتت شقيقته الرضيعة من حضن والدتها تضع قبلة على خد شقيقها، لكن القبلة لم تفتح عيني أمجد لها كما كان يفعل ولم يرسم وجهه ابتسامة، ظلَّ مغمض العينين ساكن النبض، بلا روح، تفاصيل لن تفهمها الطفلة إلا عندما تكبر على فقد شقيقها أمجد.
حرم أمجد طفولته، فكبر على اعتقال والده لثمانية أعوام، أفاق على جراح لم تلتئم مع مرور السنين باستشهاد عميه أمجد ومحمد الفايد، فحمل اسم عمه الشهيد، وتحلى بنفس شجاعته وجرأته، فاختار الفتى أمجد (17 عامًا) أن يكون حارسًا ليليًا لمخيم جنين، حتى لقبه أبناء المخيم بصائد وحدات "اليمَّام" الإسرائيلية الخاصة، لشدة نباهته واكتشافه لتلك الوحدات وافساد مخططاتهم بحيث كان لا يتوانى في الإبلاغ عنهم ومن ثم مهاجمته.
عشق البندقية ولكنه لم يمتلك واحدة منها، ترعرع بين مجموعة من أبطال جنين وأقمارها في الفترة الأخيرة، الذين أناروا طريق الحرية، وجعلوا من العتمة نورًا اهتدى إليه الفتى أمجد، فسار على درب الشهيد عبد الله الحصري الذي كان دائم مرافقته، والشهيد أحمد السعدي الذي شارك الفتى في حفل تأبينه ليلة استشهاده وجمعتهم صورة واحدة، والآن؛ غاب ثلاثتهم وبقيت الصورة التذكارية.
مساء 21 مايو/ أيار 2022، طلبه والده لمرافقته في تقديم القهوة بحفل تأبين الشهيد أحمد السعدي، لكن جاء والده طلبٌ لتقديم القهوة في عزاء آخر، فطلب من ابنه الذهاب لتأبين السعدي وحده، و"لم يدرِ كل من قدم له أمجد القهوة أنه الشهيد التالي" يقول والده وليد الفايد الملقب بـ "ختيار المقاتلين" وهو الأسير المحرر والمطارد الجريح أمضى ثمانية أعوام في سجون الاحتلال لـ "شبكة قدس الإخبارية".
يربط على جرح قلبه بالصبر: "الساعة الواحدة فجرًا، عاد إلينا وجلسنا نتسامر ونضحك، لكن إشارة باقتحام المخيم جعلته يترك المنزل ويذهب للتصدي، ونحن اعتدنا على ذلك لأنه يخرج كل يوم في الليل لحراسة المخيم، وانتظرت عودته فأخبرني أن غيابه لن يطول".
مسافة صفر
أمسك أمجد كوعًا (قنبلة محلية الصنع) صنعه بنفسه وركب خلف صديقه على دراجة نارية، وكثيرًا ألقى منها على جيش الاحتلال، ونشر له فيديوهات عديدة وهو يتقدم لمسافات قريبة من القوات المقتحمة ويلقي عليهم الأكواع، كما كان يفعل عمه الشهيد بنفس الجرأة والبسالة.
اقترب الشابان من جنود الاحتلال لمسافة صفر، وألقوا الكوع عليهم، لكن رصاصة الجنود طالتهم فأفرغوا عليه إحدى عشرة رصاصة في جسده، وأصيب صديقه.
بعد ساعةٍ اتصلوا بوالده يخبروه بإصابة أمجد، صوته يخبرك بالألم المحفور في قلبه عن فرحته الأولى "أخبروني بعد ساعة أنه أصيب، لكني قلت لهم إنه شهيد، شعرت بذلك، كانت علاقتي به كأصدقاء ولم يكن ابنًا فقط، قبل أيام من استشهاده حملته، فضحكت والدته وتعجبت، وقلت له حتى لو تزوج سيبقى ينام بقربي وسيبقى طفلاً بالنسبة لي".
مساء كل يوم، كان معظم أهالي المخيم يخلدون للنوم إلا أمجد والمقاومين فيه، تبقى عيونهم يقظة على غدر الاحتلال ووحداته الخاصة، هذا الدور كان والده على علم بكل تفاصيله: "كان يأتيني يوميا يودع أمه ويودعني، ويعود في الصباح، وأحيانا يعود وتتوارد الأنباء عن اقتحام قوات الاحتلال فيخرج للمواجهة، قبل أيام من استشهاده اكتشف وحدة خاصة، وقبل أسابيع اكتشف وحدة أخرى، وقبل شهرين أيضًا، طلبت منه الراحة والانتباه لصحته، فتساءل: "بدك أشوف كل الجرائم اللي بعملوها وما أحرسكم!؟".
"اسميته أمجد تيمنًا بعمه الشهيد، ونقول للاحتلال، إن اسم أمجد لن يموت وسيولد غيره ليقارعه مجددًا (..) في آخر أيامه، أخبرته بالانتباه لنفسه لأنني أريد أن أفرح به كونه البكر لدي، فرفض الفكرة ولا زلت أذكر رده: أنا شايف حالي بعد سنتين او ثلاثة أو الآن حستشهد .. ادعيلي".
نضال أحد المقاومين في المخيم، يزيح الستار لـ "شبكة قدس الإخبارية" عن بعض المواقف البطولية التي سطرها أمجد، "عندما استشهد عبد الحصري ذهب أمجد قبل سيارة الاسعاف وأمسك بندقية الحصري وهو ممدد على الأرض، وحاول إطلاق الرصاص فيها إلا أن عطلا في السلاح منعه من ذلك، وفي إحدى الاقتحامات اقتربت منه جيبات الاحتلال، ولم يكن قد جهز فتيل اشعال الكوع، فصرخ عليه أحدنا من بعيد: "الجيبات اقتربوا منك" فلم يرتبك وتعامل مع الموقف بهدوء، وألقى الكوع وانسحب مسرعًا، وكان لديه قوة قلب يلقي الأكواع من نقطة الصفر، بعد استشهاد الحصري والسعدي تأثر كثيرا وتمنى أن تخرج له جنازة يحمله فيها المسلحون وفعلنا ما تمنى".
"عش الدبابير"
قبل عشرين عاما، وفي معركة أراد الاحتلال تحطيم ما أسماه" وكر الدبابير" خاض عماه أمجد ومحمد الفايد معركة شرسةً مع جيش الاحتلال عام 2002، وقبل استشهادهما قتلا ثلاثة عشر جنديًا إسرائيليًا في كمين محكم رفقة الشهيد نضال النوباني، ولا زال "عش الدبابير" يولد الأبطال.
في الصورة فتى كحيل العينين، تلمع منهما شرارة وثورة، وابتسامةٌ دائمًا يقابل بها أهالي المخيم، ونظرة حادة على الأعداء قارع الاحتلال في أزقة وشوارع جنين حتى لحق بعميه الشهيدين.
حمل أمجد الفتى كلماتٍ تركها له عمه أمجد الفايد الشهيد المهندس في كتائب القسام قبل عشرين عامًا "كفكف دموعك ليس في عبراتك الحرَّى ارتياحي ..هذا سبيلي، إن صدقت محبتي، فاحمل سلاحي"، أحب الفتى عمه الشهيد فحمل اسمه وسار على دربه وصدق محبته، فحمل السلاح مبكرًا.
لا زالت ذاكرة القيادي في حركة فتح جمال حويل وهو واحدٌ ممن قاد المعركة، تعج بالكثير من التفاصيل عن أبناء الفايد الشهداء، فكانوا من أبناء حارة "جورة الذهب بالمخيم" وأيضًا من أبناء بلدة "زرعين" المهجرة إلى جنين، ومن هنا كانت العلاقة بينهما، ورغم أن أبناء الفايد أمجد ومحمد ينتمون لكتائب القسام وحركة حماس وحويل لحركة فتح، إلا أن "الراية كانت واحدة، لأننا من أبناء مخيم واحد ولا يمكن السماح للاحتلال أن نعيش نكبة تهجير ثانية" يقول حويل لـ "شبكة قدس الإخبارية".
الشهيد أمجد الفايد الذي خاض معركة جنين، امتاز بذكاء خارق ولقب بالمهندس، رغم انه لم يكمل الثالث الإعدادي، يستحضر حويل مشهدًا يدلل على ذكائه: "جاء مهندس حاصل على الدكتواره من أمريكا، وطلب أمجد مقابلته، وأخبره أنه اكتشف شيئًا جديدًا في الهندسة الميكانيكية مرتبط بتصنيع السلاح، فاستغرب المهندس وأخبره أن نظريته موجودة ولكن تفاجأ كيف لشاب لم يكمل الثالث الإعداد يعرفها، فكان خبيرًا في تصنيع السلاح وصيانة الأعطال لكل أبناء الفصائل".
في أثناء المعركة، وصلت الأنباء للشقيقين أن قوات الاحتلال فجرت منزل العائلة، "كنت معه بالمعركة وقابل الخبر بابتسامة، وقال: "إن البيت يعوض ويمكن إعادة بنائه وهذا فداء للوطن"، ولم يعرف أمجد العم، الخوف منذ نعومة أظافره كان يمارس العمل المقاومة، يلقي الحجارة، والأكواع، وكأنَّ التاريخ يعيد نفسه أيضًا أمجد ابن شقيقه وليد امتاز بالشجاعة وصناعة الأكواع مثل عمه" يستذكر.
علاقة حويل بجيرانه آل الفايد، لم تبدأ أثناء المعركة، بل منذ نعومة أظافرهم في المخيم، كانون يمارسون رياضة الجمباز معًا، يتبادلون الطعام كذلك، فشكل المخيم هوية وحدت أبناء الفصائل وكانوا كالجسد الواحد برفض اللجوء وعدم قبول غير الحرية، يقول حويل: "كانت علاقتي بأمجد ومحمد ربما أكثر قربًا من علاقتي ببعض أفراد كتائب الأقصى، وهم كذلك، حتى أننا لو احتجنا مبلغًا ماليًا من بعضنا، كنا نأخذ من بعضنا ولا نلجأ لأبناء فصائلنا، نذهب معًا إلى المدرسة ونحمل الحقائب المدرسية عن بعضنا".
كانت غرفة العمليات أثناء المعركة التي انتهت بهدم الاحتلال لنحو 1200 بيت بالمخيم، بينهم 450 بيتًا هدمت بشكلٍ كامل، تضم جميع قيادات الفصائل كالشيخ بسام السعدي، وجمال أبو الهيجا، وأبو جندل، وعطا ابو رميلة، وحويل وأبناء الفايد، ومحمود طوالبة، وغيرهم من الشهداء، اختلفت راياتهم ووحدتهم فلسطين تحت راية المقاومة والدفاع عن المخيم.
مشهد من المعركة لم ينمحِ من ذاكرة حويل، "لم يكن الشهيد محمد الفايد يحمل قطعة سلاح، ووقتها صدرت أوامر من الرئيس الراحل ياسر عرفات، بأن تكون أسلحة الأجهزة الأمنية ملكًا للمقاومة، وأمر القوة الـ "17" بمدنا بالسلاح، فتواصلت مع القوة وأحضرنا قطع سلاح، وأعطيتُ واحدة قاتل فيها الاحتلال وتصدى له، بالتالي لم يشكل اختلاف الانتماء عائقًا أمام تبادل الخبرات، والتوحد وكان الكل يتعاطى بروح وطنية وكنا نرى النصر أمام أعيننا".