ما زالت معركة "سيف القدس" التي اندلعت في أيار/ مايو 2021 محطة بالغة التأثير على الساحة الفلسطينية، وهي أبرز عمل مقاوم مسلَّح قام به الفلسطينيون دفاعاً عن القدس والمسجد الأقصى في عام 2021، وأكدت أن القدس المحتلة في صلب اهتمام المقاومة الفلسطينية المسلحة، فقد أطلقت المقاومة في قطاع غزة معركتها مع الاحتلال رداً على اعتداءات أذرعه على المسجد الأقصى، ومحاولاتهم تهجير العوائل الفلسطينية من حي الشيخ جراح.
ومع حلول الذكرى الأولى لها، ما زالت المعركة تمثل أبرز التحولات الاستراتيجية في الصراع مع الاحتلال، وقد استطاعت ترسيخ فشل سياسة الردع التي تدعيها السلطات الإسرائيلية، ودفعت نحو المزيد من الالتحام مع الاحتلال، وهو ما ظهر في تصاعد العمليات الفردية النوعية التي ضربت الأراضي المحتلة في الأشهر الأولى من عام 2022. ونقدم في هذا المقال إطلالة على المعركة وأبرز ما حققته على الصعيد الفلسطيني.
تضافرت عدة عوامل أدت إلى انطلاق معركة "سيف القدس" والهبة الفلسطينية الشاملة، ابتداءً من انتصار المقدسيين في المواجهات التي اندلعت مع جنود الاحتلال ومستوطنيه في باب العمود بين 13 و25 نيسان/ أبريل 2021، ثم تحضير سلطات الاحتلال لتحويل تاريخ 10 أيار/ مايو 2021 محطة لتصاعد التهويد، فقد قررت محاكم الاحتلال أن تعقد في هذا اليوم الجلسة النهائية للبت في قضية تهجير العائلات من حي الشيخ جراح، ولكن محكمة الاحتلال العليا قررت في 9 أيار/ مايو 2021 تأجيل النظر في القضية، على إثر تقارير أمنية تُشير إلى تصعيد ميداني مرتقب.
وفي 10 أيار/ مايو 2021، بالتزامن مع الثامن والعشرين من رمضان، أفشل المرابطون اقتحام المستوطنين المسجد الأقصى، ولم يستطع الاحتلال إدخال المستوطنين إلى المسجد على الرغم من استخدامه القوة المفرطة، وهذا ما شكل انتكاسة كبرى للاحتلال، وهي انتكاسة رسختها تدخل المقاومة.
بدأت إرهاصات معركة "سيف القدس" بالتزامن مع اقتحام المسجد الأقصى من قبل قوات الاحتلال، فقد حذرت فصائل المقاومة من استمرار الاعتداء على المسجد وحي الشيخ جراح. وقال أبو عبيدة الناطق باسم كتائب "عز الدين القسام" في 10 أيار/ مايو 2021، عبر قناته في "تلغرام": "قيادة المقاومة في الغرفة المشتركة تمنح الاحتلال مهلةً حتى الساعة السادسة من مساء اليوم لسحب جنوده ومغتصبيه من المسجد الأقصى المبارك وحي الشيخ جراح". وعلى إثر انتهاء مهلة المقاومة وعدم تراجع الاحتلال، قصفت المقاومة القدس المحتلة والمستوطنات في غلاف غزة برشقات صاروخية، وأعلنت وسائل إعلام عبرية أن المقاومة أطلقت نحو 150 صاروخاً في الساعات الخمس الأولى من المعركة.
وعلى مدى 11 يوماً، أطلقت المقاومة نحو 4340 صاروخاً باتجاه الأراضي المحتلة، أدت إلى مقتل 12 مستوطناً. وإلى جانب الخسائر المباشرة استطاعت معركة "سيف القدس" إلحاق أضرار بالغة بالاقتصاد الإسرائيلي. وعلى الرغم من إخفاء سلطات الاحتلال الخسائر الرسمية على الصعيدين الاقتصادي والدمار الذي لحق بالبنية التحتية، فإن مصادر إعلامية كشفت أن معركة "سيف القدس" أضرت باقتصاد الاحتلال بشكلٍ كبير ومباشر، من توقف حركة الطيران، وعدم قدرة بعض المرافئ على استقبال السفن المحملة بالبضائع خوفاً من صواريخ المقاومة، وصولاً إلى إصابة خط الأنابيب التابع لشركة الطاقة الإسرائيلية.
وفي النقاط الآتية بعض المعطيات حول خسائر الاقتصاد الإسرائيلي بسبب معركة "سيف القدس":
- كشفت صحفٌ عبرية معطيات عن الشلل الاقتصادي في الأيام الأولى من الحرب، إذ قدرت خسائر سوق المال والبورصة في "تل أبيب" بنحو 28 في المائة، وتوقف 30 في المائة من المصانع والورش في مستوطنات غلاف غزة عن العمل بشكل كلي، وتوقف 17 في المائة من المصانع في باقي المناطق المحتلة.
- على إثر إعلان الهدنة بين المقاومة ودولة الاحتلال، كشف مسؤول في وزارة المالية الإسرائيلية أن خسائر الاحتلال بسبب معركة "سيف القدس" تقدر بنحو سبعة مليارات شيكل (2.14 مليار دولار أمريكي)، وعلى الرغم من أن الأرقام غير رسمية إلا أنها تشكل نحو 0.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لدولة الاحتلال.
- في 24 أيار/ مايو 2021 أعلنت المجموعة الصناعية الرئيسة في دولة الاحتلال أن الشركات الإسرائيلية خسرت نحو 1.2 مليار شيكل (نحو 368 مليون دولار أمريكي) في أيام الحرب الـ11.
وإلى جانب كسر معادلة الردع التي حاولت سلطات الاحتلال تثبيتها في الحروب السابقة مع قطاع غزة، فإن معركة "سيف القدس" تعد تطوراً استراتيجياً في مواجهة الاحتلال عبر المقاومة المسلحة. وفي النقاط الآتية عددٌ من إنجازات المعركة:
1- دخول المقاومة في قطاع غزة إلى صلب المستجدات في القدس المحتلة، فقد كانت الحروب السابقة مع الاحتلال مقتصرة على أحداث داخل القطاع وظروف موضوعية تتمحور حول الحصار، ولكن معركة سيف القدس دفعت باتجاه تحول القدس إلى أبرز المعطيات على أجندة المقاومة المسلحة، وهو تطور أسهم من جهة في إشعال الهبة الفلسطينية الشاملة، ومن جهة أخرى يستلزم مراكمة من قبل فصائل المقاومة واستمراراً في التفاعل مع ما يجري في المدينة المحتلة وفي المسجد الأقصى على وجه الخصوص.
2- جرأة المقاومة في الدخول إلى مسرح الأحداث، وهي نقطة تتكامل مع الأولى من حيث المبادرة والإعداد ومحاولة الإثخان في العدو، ولا سيما أن فصائل المقاومة هي التي أطلقت المعركة، واختارت أهدافها الأولى وساعة انطلاقتها، وما يتصل بهذه النقطة من رسائل المتحدثين باسم المقاومة وبث الرعب النفسي في صفوف المستوطنين، وأن رشقات الصواريخ التي تطلقها المقاومة قادرة على الوصول لكل المناطق الفلسطينية المحتلة.
3- ترسيخ معادلة قصف "تل أبيب" في مقابل استهداف المدنيين في القطاع، وهي معادلة استخدمت فيها المقاومة الرشقات الصاروخية الكثيفة التي باتت أمراً متكرراً لم تستطع آلة الاحتلال العسكرية والقصف العنيف وارتكاب المجازر بحق المدنيين؛ إيقافها.
4- توظيف الرشقات الصاروخيّة في رفع الحالة المعنوية للجمهور الفلسطينيّ، من خلال تحية الرموز، والتفاعل المباشر مع مجريات الأحداث. ففي 15 أيار/ مايو 2021 قصفت المقاومة مستوطنة "موديعين" رداً على سقوط شهداء في الضفة الغربية. وفي 16 أيار/ مايو 2021 "أهدت" المقاومة رشقة صاروخية إلى أرواح الشهداء محمد علي ومهند الحلبي وباسل الأعرج، وفي 17 أيار/ مايو 2021 "أهدت" رشقة صاروخية إلى الشهيد شاهر أبو خديجة، الذي نفذ عملية دهس في حي الشيخ جراح في القدس المحتلة.
5- إثبات فشل القبة الحديدية التي لم تستطع حماية مستوطنات الاحتلال ومدنه، وقدرة المقاومة على إيجاد توازن عسكري نسبي مع الاحتلال بقدراتها الذاتية.
ختاماً، وعلى أثر مرور عامٍ كامل على معركة "سيف القدس" استطاعت المقاومة المسلحة أن تحافظ على رباطها على ثغور القدس والأقصى، إذ تشكل تهديداتها لضرب مدن الاحتلال جزءاً من معادلة رعبٍ جديدة، المقاومة هي اليد العليا فيها. وشهدنا كيف أثرت هذه المعادلة في محاولات إدخال المستوطنين "القرابين" إبان "عيد الفصح" اليهودي، وعلى مسيرة الأعلام الإسرائيلية في نهايته، وعلى محاولات رفع علم الاحتلال في اقتحامات ذكرى احتلال القدس في 5 أيار/ مايو 2022، وهي نماذج تعيد تأكيد نجاعة معركة "سيف القدس"، وأن إنجازاتها ماثلة بعد عامٍ من اندلاعها.