ما زالت المؤسسة الأمنية والعسكرية لدى الاحتلال منشغلة فعلا بالعثور على طريقة ما، أو طرق متعددة، للتعامل مع ظاهرة الهجمات الفلسطينية التي سببت إرباكا حقيقيا لديها، وأعادت تموضعها بصورة قسرية، لأن الوضع لا يمكن أن يهدأ من تلقاء نفسه، على العكس من ذلك، فإن البيئة الفلسطينية تعتبر حاضنة غير مسبوقة لمثل هذه الهجمات الفدائية، طالما استمرت مسبباتها المتمثلة في مواصلة الاعتداءات على المسجد الأقصى، وممارسة الضغط الأمني على جنين تحديدا.
يبدي الاحتلال، أو على الأقل أوساطه الأمنية والعسكرية قناعة، وإن حاولت المكابرة، قناعة بأن التوترات الأمنية التي سادت الأيام الأخيرة في الضفة الغربية عموما، وشمالها خصوصا، ولا سيما منطقة جنين، تعطي إشارات لا تخطئها العين بأن الاشتعال قادم في الطريق.
مع العلم بأن مثل هذه التوترات ليست جديدة، فقد عرف الاحتلال مدينة جنين ومخيمها منذ سنوات عديدة، وزعم مرة ومرات أن الطريقة الوحيدة للتعامل معها هي "جز العشب"، من خلال حضور جيش الاحتلال دائما، للقيام بتنفيذ هذه العمليات المكثفة المستمرة في الميدان، ويتمثل ذلك بتنفيذ اقتحامات يومية تقريبا، في محاولة إسرائيلية يائسة لمنع تنفيذ مزيد من العمليات، رغم أنها كانت في السنوات الماضية أقل بكثير، وبنى المقاومة لم تكن بذات المتانة والصلابة القائمة اليوم.
ومع ذلك، فإن هذه السياسة المدعاة إسرائيليا لم تستطع تسجيل نجاحات حقيقية على المدى البعيد، بدليل تحول جنين بين عام وآخر إلى قلعة حصينة للمقاومة، وعصية على الاقتحام، ولم تنجح محاولات الاحتلال وسواه من القوات تطويع المدينة ومخيمها، أو نزع سلاحها، رغم ما بذل من جهود الترغيب والترهيب، لكنها ذهبت أدراج الرياح.
في الوقت ذاته، لا يخفي الإسرائيليون أن هناك أوامر من المستوى السياسي بعدم اقتحام جنين، ففضلا عن الأبعاد العسكرية البحتة، والمخاوف من سقوط خسائر بشرية في صفوف الاحتلال، ربما يكون هناك تقدير موقف سياسي لدى الحكومة بعدم تصعيد الأوضاع الأمنية مع الفلسطينيين، خشية صب مزيد من الزيت على نار التوتر القائم أصلا، نتيجة وساطات تقوم بها أطراف إقليمية ودولية عديدة حملت تهديد المقاومة الجدي، ومفاده بأن جنين لن تكون وحدها من يتألم في هذا التصعيد.
في هذه الحالة بدأنا نسمع حالة من التلاوم بين المستويين السياسي والعسكري، فالأول لديه اعتباراته الخاصة بعدم إشعال الحريق في كامل الأراضي المحتلة عموما، والثاني يخشى من سلة خسائره فادحة، رغم أنه يحمل الحكومة الهشة مسئولية منعه عن القيام بمهمته العملياتية، أو على الأقل بقاء الوجود الكامل على الأرض لملاحقة الخلايا المسلحة، وهو وجود أكد في أكثر من مرة أنه حول جنود الاحتلال الى "بط في مرمى نيران المقاومة"، وليس العكس.