جنين – خاص قدس الإخبارية: الواحدة فجرًا، (9 إبريل/ نيسان 2022) عاد أحمد السعدي (23 عامًا) لبيته، عندما تواردت الأخبار في وسائل الإعلام عن نية الاحتلال اقتحام جنين مرة أخرى لاعتقال والد الشهيد "رعد حازم"، والده الذي يعرف جرأة نجله في هذه المواقف، نقل إليه الصورة: "أحمد؛ الوضع سخن، خليك نايم عندي يابا"، الأخير كان في عقله شيء آخر "بدي أنام عند أصحابي".
لم تغفو عيني أحمد، ولم ينم عند أصدقائه، ظلَّ مستيقظًا بين أزقة وشوارع مخيم جنين، ينتظر أي اقتحام محتمل من قوات الاحتلال، هو بالعادة يحدث بعدما ينام المجاهدون فتأتي الآليات على غفلة، حتى أطلق الصباح وتوقفت عقاربه عند الساعة السابعة صباحًا يطلب منه شقيقه محمد وصديقهم العودة للمنزل "شكلهم ما راح يفوتوا المخيم؛ خلينا نروح ننام" فرفض وظل متوقعًا دخولهم: "لالا، راح يفوتوا".
صدى رسالة عبر مجموعة "واتساب" لأبناء المخيم تعلن الاستنفار: "جيش.. جيش يا شباب"، ترك أحمد شقيقه وصديقه وذهب لخوض آخر اشتباكاته مع قوات الاحتلال.
وقفَ على ضفاف طريق شائكٍ نهايته: " إما حرية أو استشهاد " كانا خياريه الوحيدين، في مشوارٍ أخذ مفتاح عبوره من صديقه الشهيد عبد الله الحصري متسلحًا بحب فلسطين التي عشق ترابها وعندما عطشتْ للمقاومة رواها بدمائه، عرف عنه جرأته وشجاعته وبسالته، كان فارس الاشتباك من "نقطة صفر" مع جنود الاحتلال ففي كل مرة قرروا فيها اقتحام "جنين"، كان ابن يجهز رصاصاته وسيارته، ليذهب لكل منطقة يتواجدون فيها، يخوض معارك "كرٍ وفر" متنقلاً بين الشوارع والحارات، حينها جعل للصفر قيمة في كل مرة اقترب فيها من جنود الاحتلال.
صوت صدى الاشتباكات والرصاص مع قوات الاحتلال المقتحمة، أيقظت والد أحمد من نومه، أمسك الأب التي تستعر مخاوفه هاتفه المحمول، واتصل بنجله لكن لم تأتي استجابة، ثم كرر المحاولات عدة مرات دون رد، أدرك أن هناك شيئًا ما حدث، حتى أكده له متصل "أحمد تصاوب"، حملت مخاوفه نحو المشفى ليجد ابنه مسجى بدمائه، مخضبًا برائحة العزة والكرامة، نام نومته الأخيرة.
قرب عمود كهرباء، يمد يداه في وضعية تسديد تجاه عدوه، انحناءته وهو ممدد على الأرض لحظة استشهاده اعتدل فيها الوطن الذي يسكن قلبه، فكانت انحناءة "مقبل غير مدبر" باغتته رصاصة قناص لم يظهر منه إلا فهوة بندقية، بينما هو لاحقهم من عدة طرق وذهب إليهم وتنقل بين عدد من شوارع المخيم يقاتل، فكانت انحناءة اعتدال لطريق الدفاع عن الوطن تغنى بها (درويش): " ورأيت الشهداء واقفين، كلٌ على نجمته، سعداء بما قدّموا للموتى الأحياء من أمل".
" مسافة صفر"
صوت والده المنبعث عبر من سماعة الهاتف، أثناء حديثه مع "قدس الإخبارية" تتجلى فيه معاني الصبر بكلماتٍ ممزوجة بين الفخر وألم الفقد: "أسأل الله أن يصبرنا على فراقه، فهو أفضل أبنائي، أحمد شهيد دافع عن حرمة بلده، شجاع لا يعرف الخوف، يمكن القول إنه شجاع أكثر من اللازم، اشتبك مع جنود الاحتلال من نقطة صفر".
صورة "فارس المخيم" الأخيرة لا تفر من حديثه شقيقه محمد لنا "حاولت منعه، لكنه أخذ السلاح وابتعد، ثم تنقل بين أكثر من نقطة في المخيم، بلغة عامية "جننهم" في آخر مشهد كان مسرعًا وأوقف سيارته عند عمود الكهرباء وخاض اشتباكه الأخير، فأصيب في قدمه ثم ظل يزحف ويشتبك وهو مصاب، ثم أطلق عليه قناص رصاصة بالصدر، وتقدم جيب لقوات الاحتلال وقام أحد الجنود بإطلاق رصاصة على رأسه".
" استشهاده يظهر وحشية الاحتلال، ففي الحروب معروف أن الشجاع عندما يصاب تقدم له تحية عسكرية ويقدم له العلاج وليس تصفيته (..) عندما حدثت الاشتباكات واستيقظت كنت أرى سيارته تتنقل بين الشوارع وكان يلاحق القوات المقتحمة" توثق صورة التقطها أحد المصورين ما رآه والده.
مطلع مارس/ أذار 2022 استشهد رفيق دربه، عبد الله الحصري (23 عامًا) بنفس الطريقة خلال اقتحام قوات الاحتلال للمخيم، وبرصاصة قناص، طوال أربعين يومًا أطلق أحمد العنان للحيته عازمًا على تهذيبها أو قصها في اليوم الأربعين على استشهاد عبد الله، لكنه استشهد فيه، لتجاور روحه روح رفيق دربه، ويجاوره داخل مقبرة واحدة.
لم يعتد أحمد أن يعيش حياة خاليا من رفيق دربه" عبد الله"، وهما اللذان كانا يخرجان ويقاومان وينامان معًا، طوال أربعين يومًا مرت وكأنها أعوام لم يتخلف يومًا واحدًا عن زيارة قبره، من قعر القهر تطأ عتبة البوح فم والده "كان يصلي العصر يوميًا ثم يذهب لقراءة القرآن على روح صديقه عبد الله، لقد تأثر كثيرًا باستشهاده وظلَّ متعلقًا بالشهادة".
"أحتسبه شهيدًا عند الله لأجل فلسطين والقدس والأقصى، وقف ضد استباحة بيوتنا وحرماتنا، كان يحب الجنة، ودائمًا يقولها لي حتى في آخر كلامي وحواري معه، عندما أرسل جيش الاحتلال إليه تهديدات وخلال مشاركته في التصدي للاقتحامات، قلت له: "بديش أخسرك يابا يا حبيبي، اليهود بفوتوا وبحطوا قناصين، أنتم مش عسكر، بقتحموا وهم مغطيين، هم أجبن انهم ينزلوا يقابلوكم على الأرض، فنظر إلي وهم يستمع لكل ما قلته ورد بعبارة واحدة مرة واحدة: "أنا رايح على الجنة".
قاتل باليد المصابة
خلال اقتحام قوات الاحتلال لقرية "السيلة الحارثية" قبل شهرين، تعرض أحمد للإصابة بيده اليسرى خلال تصديه للاقتحام لكن يومها شاركه في التصدي عبد الله الحصري، كانا يرميان الرصاص من على قوسٍ واحدة، "أصيب أحمد ومكث عبد الله معه بالمشفى طوال فترة علاجه وإخراج شظايا الرصاص من يده".. كأنَّ خنجرًا اخترق قلب والده وهو يستذكر تفاصيل ذلك اليوم "قابلته الساعة الواحدة فجرًا يومها، طلبت منه عدم الخروج من المنزل، لكني في الصباح تفاجأت باتصاله على شقيقه يخبره بإصابته ويطلب منه عدم".
أمضى أحمد الشهور الخمسة من حياته، مطاردًا بعد أن وضع الاحتلال مجهر الملاحقة عليه، وأصبح من أهم المطلوبين لديه في المخيم، ثم مصابًا بقيت آثار وآلام الإصابة ترافقه حتى استشهاده فقاتل باليد المصابة، رافضًا أن "يسقط راية المقاومة في المخيم" لأجل إصابة قاوم آلامها.
تطفو على حديث والده ذكريات من آخر أيام أحمد "بنيت له شقة، وتبقى فقط طلائها، وكلفت اخوته التسعة (4 ذكور و4 إناث) بمحاولة اقناعه بقبول فكرة الزواج، لكنه طلب تأجيل الأمر، أمضى آخر شهوره مطاردًا أغلب الأوقات كان ينام خارج البيت".
تقفز كلمات الحزن من صوت والده، لم يبقها حبيسة القلب، معددًا صفات نجله "أحمد شخصية إنسان محبوب، مؤدب، الله يرضى عليه، خلوق، حنون، إنسان بسيط دائمًا مبتسم (..) الجميع متأثر باستشهاده، حقيقة لو خسرت الأربعة أهون من فراقه، أتدرون لماذا؟، لم يرفض لي طلب، مطيع، لم يزعلني في شيء إلا في هذه (المقاومة) لكني أفتخر فيه، ما يحزنني أني خسرته، أحببت أن أفرح به، لكن هذا الفرح تأجل إلى الجنة".
وقفت شقيقته في مراسم دواعه، تنظر إليه وهو محمولاً على الاكتاف، بعينين محمرتين تبكي شقيقها أثناء تحرك موكب المشيعين تواريه عن نظرها " الله يرحمك يا أحمد، الله يرحمك ويرضى عليك، طلبت مني ازغرد فزغردت الك" زي ما طلبت مني "